الحقيقة الغائبة

لشهيد الكلمة، الدكتور

فرج فودة

مقدمة

هذا حديث سوف ينكره الكثيرون، ألنهم يودون أن يسمعوا ما يحبون، فالنفس تأنس لما تهواه، وتتعشق ما

الحقيقة، وأسوأ ما استقرت عليه، ويصعب عليها أن تستوعب غيره، حتى لو تبينت أنه الحق، أو توسمت أنه

يحدث لقارئ هذا الحديث، أن يبدأه ونفسه مسبقة بالعداء، أو متوقعة للتجني، وأسوأ منه موقف الرفض مع

.سبق اإلصرار للتفكير واستعمال العقل

هذا حديث تاريخ ال يزعم صاحبه أنه متخصص فيه، أو فارس في ميدانه، لكنه يزعم أنه قارئ له في أناة،

بر موثق له في دقة، ناقد له في منطق، يهوى أنه يقلبه ذات اليمين وذات الشمال، ال يستطيع محلل له في ص

أن يمد خياله متجاوزا الحقيقة باإلضافة أو منتقصا منها باإلهمال، وما أكثر ما فعل ذلك من لهم تاريخ واسم،

راعون وهم يفعلون ذلك حرمة وقلم وفكر، ومنهج وبحث، ال يجدون راحتهم إال حيث يستريح القارئ، وال ي

.لتاريخ أو لعقل أو حتى لنقل

هذا حديث ما كان أغناني عنه، لوال أنهم يتنادون بالخالفة، ليس من منطلق الدعابة أو المهاترة أو الهزل، بل

من منطلق الجد والجدية واالعتقاد، فسيتدرجون مثلى إلى الخوض فيما يعرف ويعرفون، ويعلم وينكرون،

قبلون، ليس من أجلهم، وال حتى من أجل أجيال الحاضر التي من واجبها أن تعرف وتتعرف، وينكر وي

وتعلم وتتعلم، وتفكر وتتكلم، بل قبل ذلك كله من أجل أجيال سوف تأتي في الغد، وسوف تعرف لنا قدرنا

م نقصر، وأننا وإن أنكرنا المنكرون وسوف تنصفنا وإن أداننا المدينون، وسوف تذكر لنا أننا لم نجبن ول

بقدر ما أفزعنا بقدر ما دفعنا المجتمع لألمام، وبقدر ما أقلقنا بقدر ما أستقر المجتمع في أيامهم، وبقدر ما

هذا حديث تاريخ وسياسة وفكر وليس حديث دين وإيمان وعقيدة، . واجهنا بقدر ما توجهوا هم إلى المستقبل

قارئ يعيش القرن العشرين وينتمي إليه عن أحداث وحديث مسلمين ال حديث إسالم، وهو قبل ذلك حديث

بعضها يعود إلى الوراء ثالثة عشر قرنا أو يزيد، ومن هنا يبدو الحديث صعبا على من يعيشون وينتمون

لواقع ما قبل ثالثة عشر قرنا، ويقيمون من خالل معايشتهم وتبنيهم لذلك الواقع أحداث حاضر القرن

حديث قد يخطئ عن غير قصد، وقد يصيب عن عمد، و قد يؤرق عن تعمد، وقد العشرين، وهو في النهاية

يفتح بابا أغلقناه كثيرا وهو حقائق التاريخ، وقد يحيى عضوا أهملناه كثيرا وهو العقل، وقد يستعمل أداة

في ذاته . ثتجاهلناها كثيرا وهي المنطق، وهو حديث في النهاية موجز أشد ما يكون اإليجاز، ال يهتم بالحد

بقدر ما يعتني بدالالته ويرى أنه بوفاة الرسول استكمل عهد اإلسالم وبدأ عهد المسلمين، وهو عهد قد

يقترب من اإلسالم كثيرا وقد يلتصق به، وقد يبتعد عنه كثيرا وقد ينفر منه، وهو في كل األحوال والعهود

محلال من تناول وقائعه، وهو أيضا وبالتأكيد ليس ليس له من القداسة ما يمنع مفكرا من االقتراب منه، أو

حجة على اإلسالم، وإنما حجة للمطالبين بالحكم باإلسالم أو حجة عليهم، وسالح في أيديهم أو في

مواجهتهم، وليس أبلغ من التاريخ حجة، ومن الوقائع سندا، ومن األحداث دليال، وليس لهم من البداية أن

ا إليه من مصادر وما استندنا إليه من مراجع، فهي ذات المراجع التي يحتجون بها ينكروا علينا ما رجعن

على ما يرون أنه في صالحهم، ومع دعواهم، ولو أهملنا معا هذه المراجع، لما بقي من تاريخ اإلسالم شئ،

. ال أو توثيقاولما بقيت في أيديهم حجة، ولما استقر في كتاباتهم دليل، ولما وجدوا لمنطقهم سندا أو أص

فرج فودة. د

هذا حديث قصدت فيه أن أكون واضحا كل الوضوح، صريحا كل الصراحة، زاعما أن الوضوح

والصراحة في الموضوع الذي أناقشه استثناء، فقد صبت في المجرى روافد كثيرة، منها رافد الخوف،

ذلك كله يلوح سد كبير، يتمثل في الحكمة التي ومنها رافد المزايدة، ومنها رافد التحسب لكل احتمال، وخلف

كل باب يأتيك منه الريح، فما بالك إذا أتاك إعصار التكفير، ( سد)يطلقها المصريون، والتي تدعو إلى

وواجهتك قلوب -هل يصدر هذا من مسلم؟ –وارتطمت بأذنك اتهامات، أهونها أنك مشكك، وأسئلة أيسرها

ت الجتهاد السلف، ووجدت أن الرمي بالحجارة أهون من إعمال العقل عليها أقفالها، وعقول استراح

..بالبحث، وأن القذف باالتهام أيسر من إجهاد الذهن باالجتهاد

هذا حديث دنيا وإن بدا لك في ظاهرة حديث دين، وأمر سياسة وحكم و إن صوروه لك على أنه أمر عقيدة

قها األنقياء، ويعتنقها األتقياء، ويتبعون في سبيلها من وإيمان، وحديث شعارات تنطلي على البسطاء، ويصد

، ومن يعلنون بال مواربة أنهم أمراء، ويستهدفون الحكم ال اآلخرة، والسلطة ال (وهم األذكياء)يدعون الورع

الجنة، والدنيا ال الدين، ويتعسفون في تفسير كالم اهلل عن غرض في النفوس ويتأولون األحاديث على

ض في القلوب، ويهيمون في كل واد، إن كان تكفيرا فأهال، وإن كان تدميرا فسهال، وال يثنيهم هواهم لمر

عن سعيهم لمناصب السلطة ومقعد السلطان، أن يخوضوا في دماء إخوانهم في الدين، أو أن يكون معبرهم

.فوق أشالء صادقي اإليمان

إلى ذهنك بقدر ما ألح عليه، وما أكثر ما لعلك أدركت أيها القارئ أنني أخوض معك في موضوع قريب

ألح، بل ما أصرح ما ألح، حين ارتفعت وال تزال ترتفع، في االنتخابات السياسية والنقابية في مصر رايات

(.يا دولة اإلسالم عودي، اإلسالم هو الحل، إسالمية إسالمية)مضمونها

ي تصور مصدريها أن الدين والسياسة وجهان وهي رايات ال تدري أهي دين أم سياسة، لكنك تجد مخرجا ف

لعملة واحدة، وأن تلك األقوال تعبير عاطفي عن شعارات اإلخوان المسلمين القديمة، بأن اإلسالم دين

.الخ... ودولة، مصحف وسيف

يجدر بي أن أضعك أمام وجهتي نظر، كل منهما تقبل االجتهاد، بل وقبل ( وهل تنكر ذلك)وقبل أن تسألني

.له، تقتضي اإلجهاد، وأقصد بذلك إجهاد الفكر بحثا عن حقيقة غائبةذلك ك

أما وجهة النظر األولى، وال أشك أنها وراء ما ذكرت من دعاوى، فأنها تتمثل في إن المجتمع المصري

.مجتمع جاهلي أو بعيد عن صحيح الدين

مواقف القائلين بين التطرف وبين مقولة تجهيل المجتمع، ومقولة االبتعاد عن صحيح الدين، تتدرج

ألصحاب المقولة األولى، واالعتدال للقائلين بالثانية، لكنهم جميعا متفقون على أن نقطة البدء بالحل تكمن في

التطبيق الفوري للشريعة اإلسالمية، وأصحاب وجهة النظر هذه يطرحون خلف ظهورهم خالفهم حول

سوف يتبعه ( الفوري)بيق الشريعة، مؤكدين أن هذا التطبيق رأيهم في المجتمع الحالي، ويستقرون بدعوة تط

. لمشاكله( فوري)للمجتمع، وحل ( فوري)صالح

هذا عن وجهة النظر األولى، أما وجهة النظر الثانية، فلعلي ألمح على وجهك قبل أن أعرضها تساؤال

بأن وجهة النظر الثانية ، ولعلي أتلمس خلف هذا التساؤل تصورا(وهل هناك وجهة نظر ثانية)مضمونه

البد وأن تتناقض مع ما توصلت إليه وجهة النظر األولى، وأنها تصبح واألمر كذلك مصطدمة أو متصادمة

.مع دعوة لتطبيق أصل من أصول العقيدة

لكني أبادر فأطمئنك بأن وجهة النظر الثانية، ال تناقض اإلسالم بل تتصالح معه، وال تأتي من خارجه بل

..عباءته، وال تصدر عن مارق بل تصدر عن عاشق لكل قيم اإلسالم النبيلة والعظيمة تخرج من

:إن وجهة النظر الثانية تستند إلى مجموعة من الفروض يمكن عرضها فيما يلي

إن المجتمع المصري ليس مجتمعا جاهليا، بل هو أحد أقرب المجتمعات إلى صحيح اإلسالم إن لم يكن : أوال

ة ال مظهرا، وعقيدة ال تمسكا بالشكليات، بل أن التمسك األصيل والشديد بالقيم الدينية يمكن أن أقربها، حقيق

.يمثل ملمحا مصريا

يصدق هذا على موقف المصريين من العقائد الدينية الفرعونية قبل ظهور األديان السماوية، بقدر ما يصدق

الم مصر، بقدر ما يصدق أيضا بدرجة أوضح على موقف المصريين من الدين المسيحي قبل دخول اإلس

من كل ما سبق على موقف المصريين من اإلسالم، والشواهد على ذلك كثيرة، بدءا من تردد المصريين

على المساجد وحماسهم، وتنافسهم على مركز الصدارة في عدد الحجاج من بالد العالم اإلسالمي كله،

شهر رمضان إلى عيد ديني قومي ال يمكن تبرير الشغف به، واحتفائهم باألعياد الدينية، بل وتحول

واالحتفاء بحلوله، والحسرة على انتهائه إال بأصالة وعمق الشعور الديني، وانتهاء بما ساهمت مصر في

مجال العقيدة واالجتهاد، بدءا بالليث بن سعد، وفقه الشافعي في مصر، وانتهاء باألزهر الشريف ودوره

.إلسالميكمنارة للفكر ا

إن تطبيق الشريعة اإلسالمية ليس هدفا في حد ذاته، بل إنه وسيلة لغاية ال ينكرها أحد من دعاة :ثانيا

التطبيق وأقصد بها إقامة الدولة اإلسالمية، وهنا مربط الفرس ومحور النقاش، ودعاة تطبيق الشريعة

لة، والشريعة اإلسالمية في مفهومهم تمثل اإلسالمية كما سبق وذكرنا يرفعون شعار أن اإلسالم دين ودو

حلقة الربط بين مفهوم اإلسالم الدين ومفهوم اإلسالم الدولة، ليس ربطا بين مفهومين مختلفين، بل تأكيدا

.وهي صحيح اإلسالم –في رأيهم –على أنهما وجهان لعملة واحدة

ة السياسة، وهنا يطفو على سطح النقاش هنا ينتقل النقاش إلى ساحة جديدة، هي ساحته الحقيقة، وهي ساح

سؤال بسيط وبديهي، ومضمونه أنهم ما داموا قد رفعوا شعار الدولة اإلسالمية وانتشر أنصارهم بين

برنامجا –نحن الرعية –األحزاب السياسية يدعون لدولة دينية يحكمها اإلسالم، فلماذا ال يقدمون إلينا

ا نظام الحكم وأسلوبه، سياسته واقتصاده، مشاكله بدءا من التعليم وانتهاء سياسيا للحكم، يتعرضون فيه لقضاي

.باإلسكان، وحلول هذه المشاكل من منظور إسالمي

أليست هذه نقطة ضعف جوهرية يواجههم بها من يختلفون معهم سواء بحسن نية، وهو ما نظن، أو بسوء

. يتركوا ألحد مجاال لنقد أو رفضنية، وهو ما يعتقدون وما يتعين عليهم سد ذرائعه حتى ال

هنا يبدو األمر منطقيا ال تناقض فيه، وهنا يصبح رفعهم شعار الدين والدولة معا أمرا مقبوال، وهنا يصبح

رفضهم لفصل الدين عن السياسة وأمور الحكم رفضا له من الوجاهة حظ كبير، وله من المنطق سند قوي،

بيق الشريعة اإلسالمية جزءا من كل، وهي جزء ال يتناقض مع الكل بل وأكثر من ذلك تصبح قضية تط

بحال بل يتناسق معه، ففي مجتمع الكفاية والعدل، حيث يجد الخائف مأمنا، والجائع طعاما، والمشرد سكنا،

واإلنسان كرامة، والمفكر حرية، والذمي حقا كامال للمواطنة، يصعب االعتراض على تطبيق الحدود بحجة

القسوة، أو المطالبة بتأجيل تطبيقها بحجة المواءمة، أو عن قبول بارتكاب المعصية اتقاء لفتنة، أو تشبها

.بعمر في تعطيله لحد السرقة في عام المجاعة، أو لجوءا للتعزير في مجتمع يعز فيه الشهود العدول

حب أال تفوت على المشتغلين فيما توصلت إليه من أن مسألة كهذه، ي –أيها القارئ –لعلك متفق معي

بالعمل السياسي الديني، بل لعلك تتجاوز التعجب إلى االعتقاد بأن هذا أمر يسير وأنه إلى تدارك، بل ربما

اعتقدت عن تفاؤل بأنه أمر سهو، وأن السهو إلى زوال، لكني ال أشاركك تفاؤلك، لسبب يعلمه دعاة تطبيق

جتهاد، بل إن شئت الدقة اجتهاد العقم، وخوف االختالف، بل إن الشريعة ويعانون منه، وأقصد به عقم اال

شئت الدقة خلف الخوف، وطمع االستسهال، بل إن شئت الدقة استسهال الطمع، وعجز القدرة، بل إن شئت

.الدقة قدرة العجز

يها ليس فيما أقوله بالغة باللفظ، بل هي حقيقة تستطيع أن تلمس عشرات األمثلة على صدقها، ودونك أ

القارئ العزيز ما حدث في قوانين األحوال الشخصية، والتي شهدنا ثالثة منها في عشر سنوات، أثار األول

منها ثائرة المدافعين عن حقوق المرأة فكان القانون الثاني الذي أثار حفيظة المدافعين عن حقوق الرجل،

من أن قانون األحوال الشخصية جانب هين فكان الثالث الذي هدأت به ثائرة الثائرين إلى حين، على الرغم

من جوانب أي برنامج سياسي، بل أنه أسهل جوانب تطبيق الشريعة اإلسالمية، ألنه ال خالف عليها أو

حولها في كونها المصدر الوحيد للتشريع في هذا المجال، وهي في النهاية قضية يبدو وجهها الديني أكثر

.وضوحا من أي وجه آخر

ة أتت من مواجهة العلماء لعالم جديد، ترتبت فيه للمرأة حقوق لم تترتب في عصر سابق، لكن المشكل

وأصبح عمل المرأة على سبيل المثال واقعا ال منـة أو منحة، وحقا مكتسبا ال سبيل إلى مناقشته، وطرحت

ة أو الشافعي أو ابن المتغيرات الجديدة في المجتمع من الظروف ما ال سابقة له في عهد مالك أو أبي حنيف

حنبل، فأزمة اإلسكان قائمة، بل إن هناك ما لم يعرفه الفقهاء األربعة حين ناقشوا هذه القضية، من حكم

، وفي (و هو االختالف بينهم)، وهي كلها أمور أوقعت العلماء في حيص (التمليك)الشقة المستأجرة أو

(.في المجتمع من ناحية أخرى وهو الخالف بينهم من ناحية وبين قطاعات كبيرة)بيص

وجد العلماء ضالتهم في االنتقال من مالك إلى –أقصد القوانين الثالثة –وفي كل حال من األحوال الثالث

أبي حنيفة، فإن لم يجدوا انتقلوا إلى فتاوى فقهاء أقل حظا من الشهرة من أمثال سهل بن معاوية، وهم في

.ني الهجري قيد أنملة، أو إن شئنا الدقة قيد عامكل األحوال لم يتجاوزا القرن الثا

ماذا سيكون الحال إذا تطرق األمر إلى مجال االقتصاد، وشغل دعاة الدولة اإلسالمية أنفسهم بقضية زيادة

اإلنتاج في المجتمع، وفوجئوا بحجم استثمارات القطاع العام التي تتراوح بين ثالثين إلى خمسين مليار

والمدخرات في صورة ودائع، . ها على مدخرات المصريين في بنوك القطاع العامجنية، يعتمد تمويل

والودائع تستحق فوائد، وآخر اجتهادات القرن الثاني الهجري، والتي لم تعاصر قطاعا عاما أو بنوكا أدخلت

الركون إلى العائد الثابت للمدخرات في دائرة الربا، وآخر ما و صل إليه الداعون للدولة اإلسالمية هو

.. اجتهادات هؤالء الفقهاء، وكأنها تنزيل من التنزيل، ماذا سيكون الحال؟

مأزق إن تجمدوا، وبرنامج سياسي إذا اجتهدوا، ولعل أول الحالين أقرب لتصوير الواقع، فالتصوير أهون

لفوائد أيسر، من التطوير، والحكم بخروج المجتمع كله من دائرة اإليمان أسهل، والحكم بعدم مشروعية ا

وتجهيل المجتمع ومؤسساته أضمن، والنحو بالالئمة على الزمان أسهل السبل، والترحم على الشاعر العربي

، هذا عن هين األمور، وأقصد به التفصيالت، أما أصعبها وأقصد (نعيب زماننا والعيب فينا)وارد حين قال

سلوب الحكم أو العالقة بين السلطات فإن تناول أي به األمور العامة، والمنظمة ألسلوب اختيار الحاكم أو أ

.بعيدا عن سجع األلفاظ وشقشقات البالغة( الدولة الدينية)منها هو المحك الحقيقي لدعوة

وأنت في طرحك لألسئلة وبحثك عن اإلجابات تكتشف أنك في سباق للموانع، ومباراة الستعراض حجم

عدم حسمها، نتيجة غياب االجتهاد المستنير، أن يدعوك البعض ضخم من الخالفات التي لم تحسم، ولم يمنع

، وتجنبا للخالف (بالهم هم)إلى خوض التجربة، وأن يتحاشى الجميع الخوض فيها إيثارا لراحة البال

، وهم في كل األحوال في مأمن، إن أعجزتهم اإلجابة أفتوا بأنك ال تملك أدوات البحث في (خالفهم هم)

ية، وإن أفحمهم المنطق تنادوا بأنك عميل لإلمبريالية، أو متأثر بالشيوعية، أو ناطق بلسانهما القضايا الدين

.معا

وحتى ال تتحول القضية إلى تراشق فإنني سأحاول معك أن أستعرض بعضا من تلك الموانع التي أشرت

يجب أن تتوافر فيه، وقد إليها، ولنبدأ بالحاكم، وبديهي أن أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو الشروط التي

تتصور أن الشروط سهلة، وأنها يمكن أن تتمثل في كونه مسلما عاقال رشيدا إلى آخر هذه األوصاف العامة،

، وقد تتعجب من أن ينادي (قرشيا)لكنك تصطدم بشرط غريب، تذكره كثير من كتب الفقه، وهو أن يكون

، والذي ال يعطي فضال لعربي (كأسنان المشط)الناس أمامه البعض بهذا الشرط باسم اإلسالم، الذي يتساوى

.على عجمي إال بالتقوى

وقد يتبادر إلى ذهنك خاطر غريب، وإن كان صحيحا، يتمثل في أن هذا الشرط قد وضع لكي يبرر حكم

لقريب عن الخلفاء األمويين أو العباسيين، وكلهم قرشي، بل قد يتداعى إلى ذهنك ما قرأته في كتب التاريخ ا

الملك فاروق في أول عهده، حين قدمه محترفو السياسة إلى المصريين في صورة الملك الصالح، وظهر في

إلى المناداة به ( الطموحين)الصور بلحيته ومسبحته ونصف إغفاءة من عينيه، وتسارع بعض رجال الدين

رسول، وتبارى اإلعالم في اإلعالن عن هذا للمسلمين، واجتهد األذكياء منهم في إثبات نسبه لل( وإماما)ملكا

.النسب وتأكيده، تحقيقا لشرط من شروط اإلمامة، وسدا للذرائع على المعترضين

ولعلك مثلي تماما ال تستريح لهذا الشرط، الذي يصنف المسلمين إلى أصحاب دم أزرق وهم القرشيون

بحديث نبوي مضمونه أن اإلمامة من قريش، الحكام، وأصحاب دم أحمر ينتظم األغلبية، لكنهم يواجهونك

وتتبادر إلى ذهنك في الحال عشرات األحاديث التي وضعها الوضاعون، والتي و صلوا فيها إلى تسمية

الخلفاء العباسيين وتحديد موعد خالفتهم بالسنة واليوم، وهي كلها أحاديث وضعها من ال دين لهم هوى

نك في نفس الوقت تخشى من اتهامك بالعداء للسنة، خاصة من الذين الحكام، وال ضمير لهم وال عقيدة، لك

أي المعنى والمضمون ومدى )قصروا دراستهم لألحاديث النبوية على أساس السند وليس على أساس المتن

(.توافقه مع النص القرآني

ألنصار النتخاب سعد وال تجد مهربا إال بتداعيات اجتماع سقيفة بني ساعدة في المدينة، والذي اجتمع فيه ا

بن عبادة، وسارع أبو بكر وعمر وأبو عبيده الجراح إليهم ورشحوا أبا بكر، ودار حوار طويل بين

الطرفين، انتهى بمبايعة أبي بكر، وأنت في استعراضك للحوار، ال تجد ذكرا للحديث النبوي السابق، وهو

على ترشيح نفسه، ولكفى أبا بكر وعمر إن كان حديثا صحيحا لما جرؤ سعد بن عبادة سيد الخزرج

والجراح مؤونة المناظرة، ولما فاتهم أن يذكروه وهو في يدهم سالح ماض يحسم النقاش، ويكفي أن تعلم أن

سعد بن عبادة ظل رافضا لبيعة أبي بكر إلى أن مات، ولم يجد من يأخذ بيده إلى هذا الحديث فيبايع عن

اقف غير المنكورة في اإلسالم، غير أن لكل ظاهرة سيئة وجهها رضى وهو الصحابي الجليل ذو المو

المفيد، فقد انبرى أصحاب الرأي اآلخر، والذين يؤمنون بحق االكفأ في الحكم دون اعتبار لنسبه إلى ذكر

، مضمونها أنه ال مانع من أن يحكم المسلمين عبد "وداوها بالتي كانت هي الداء " أحاديث مضادة بمنطق

فأعادوا للمنطق توازنه، وأعطوا لكثير من الطوائف اإلسالمية التي نشأت ( كأن رأسه زبيبة)د حبشي أسو

فيما بعد سندا لرأيهم المعارض لخالفة العباسيين، وإن كانت نتيجة ذلك كله، وضع المانع األول في مسيرة

يا أم أنه االكفأ بغض الدولة اإلسالمية، وهو الخالف الفقهي حول نسب الحاكم وهل يكون بالضرورة قرش

النظر عن نسبه، وال عبرة هنا بالمنطق أو بواقع الحال، فسيف إنكار الحديث وارد على رقاب كل من

الطرفين، في قضية أتصور أنا وأنت أنها هينة سهلة، ال تستحق عناء وال تقتضي طول بحث، وال تنتقل

عا ضخما يدور حوله الجدل إلى اليوم وال يقنع منها أو تتجاوزها إلى أسلوب تولية الحاكم حتى تكتشف مان

المتجادلون فيه بمنطق بسيط وواضح وهو أن القرآن لم يترك قاعدة في هذا األمر، والرسول لم يعرض لها

من قريب أو بعيد وإال لما حدث الخالف والشقاق في اجتماع السقيفة، ولما رفض على قبول تولية أبي بكر

الرواية بين رفضه المبايعة أياما في أضعف الروايات، وشهورا حتى موت فاطمة ومبايعته على اختالف في

في أغلبها، بل إن أسلوب السقيفة لو كان هو األصح، التبعه أبو بكر نفسه وترك تولية من يليه إلى المسلمين

ن قبيل وفاته أو أهل الحل والعقد منهم، وهو ما لم يفعل حين أوصى لعمر بكتاب مغلق بايع عليه المسلمو

دون أن يعلموا ما فيه، وهو أيضا مرة أخرى ما خالفه عمر في قصر االختيار بين الستة المعروفين، وهم

على وعثمان وطلحة والزبير وابن عوف وسعد، وهو ما اختلف عن أسلوب اختيار على ببيعة بعض

.األمصار، ومعاوية بحد السيف، ويزيد بالوراثة

ليب مختلفة الختيار الحاكم، يرفض المتزمتون تجاوزها، ويختلفون في تفضيل أحدها أنت هنا أمام ستة أسا

على اآلخر، ويرى المتفتحون أن داللتها الوحيدة أنه ال قاعدة، وأن اإلسالم السمح العادل، ال يرفض أسلوب

هذا محل اتفاق أو االختيار باالنتخاب المباشر أو غير المباشر، وهو ما ال أظن أنه كان يوما، حتى يومنا

.قبول عام من أنصار الدولة الدينية

ولعلي ال أتحدث من فراغ، بل أصدر عن واقع النظم اإلسالمية المعاصرة في عالمنا الحديث، فهناك بيعة

في السعودية مع قصر الترشيح على أفراد األسرة المالكة، وهناك المبايعة ( المختارون)أهل الحل والعقد

كتبه الحاكم ويوصى فيه لمن يليه اشتقاقا من أسلوب اختيار أبي بكر لعمر، في السودان على كتاب مغلق ي

في عهد النميري، وهناك والية الفقيه في إيران، وهناك اعتبار الموافقة في اإلستفتاء على الشريعة اإلسالمية

نع جديد يضاف إلى ما موافقة ضمنية على الحاكم واختيارا له في الباكستان، وهناك في كل األحوال ما

سبق، وهو أن مدة تولية الحاكم في كل األحوال السابقة مستمرة مدى حياته، وال عبرة في ذلك بأن البيعة

على أساس االلتزام بكتاب اهلل وسنة رسوله، وأن الحاكم يعزل إذا خالف ذلك، فما أكثر ما خالف، دون أن

وحديث التاريخ في هذا ذو شجون بل قل ذو جنون، سواء يعزل أو حتى يعترض عليه قديما كان أو حديثا،

في تطرف الحاكم في خروجه على صحيح العقيدة أو تطرف الرعية في الخنوع إلرادته والخضوع لبطشه،

ولعل القارئ يالحظ أنني قد تشددت في العبارات األخيرة حتى أستلهم في ذهن دعاة الدولة الدينية ردا

عة لبطش الحاكم، حافظة لحق الرعية، غير أني آسف إذا ذكرت لهم أن هذا بدوره منطقيا بأن الشورى مان

يقود إلى مانع جديد هو الخالف حول كنه الشورى، وهل هي ملزمة للحاكم وهو رأي األقلية أم أنها غير

ت غير ملزمة له وهو رأي األغلبية التي تفرق بين كون الحاكم ملزما بأن يستشير، وبين كونه في نفس الوق

.ملزم باتباع رأيهم حتى إن اجتمعوا عليه جميعهم أو أغلبهم

لقد أدرك بعض المخلصين من الدعاة أنهم يواجهون من ظروف المجتمعات الحديثة ما لم يواجهه السلف،

وأن الديموقراطية بمعناها الحديث، وهو حكم الشعب بالشعب ال تتناقض مع جوهر اإلسالم وأن اجتهادات

الديموقراطية، والتي تمخضت عن أساليب الحكم النيابي، واالنتخابات المباشرة، ال يمكن أن المؤمنين ب

تصطدم بجوهر العدل في الدين اإلسالمي، وروح الحرية التي تشمل ويشملها، ومن أمثالهم األستاذ الكبير

فض لما أماله عليهم اتساع خالد محمد خالد والعالم الجليل محمد الغزالي، لكنهم واجهوا تيارا كاسحا من الر

أفقهم، وفهمهم لجوهر العقيدة األصيل، وانبرى زعماء التيارات الثورية والتقليدية في نقد اآلراء وتفنيدها، ال

فرق في هذا بين معتدل أو متطرف، ودونك ما نشر على لسان األستاذ عمر التلمساني واألستاذ عمر عبد

الشعب بدعوى أن الحكم هلل، وهو أمر لو أمعنت النظر فيه لما الرحمن وهو في مجمله يرفض مقولة حكم

وجدت تناقضا، لكنهم يحاولون تأصيل منهجهم بافتراضات منها أن األغلبية قد تقر تشريعا يعارض شريعة

اهلل، وأن التسليم بحق المجالس النيابية في التشريع سلب لحق إلهي ثابت ومقدس، وهو كونه جل شأنه

.ر والوحيدالمشرع األكب

قد تعطل النص الشرعي بالرأي الشخصي، وهكذا أيها القارئ ال تنتهي عقبة أو –أي الديموقراطية –وأنها

مانع إال وتظهر عقبة جديدة أو مانع جديد، وهي كلها موانع قد يسعد بها المجتهدون المتفتحون، ألنها تفتح

حيح الدين، ودون تصادم مع روح العصر، لكنها في أمامهم بابا واسعا للرأي ولالجتهاد دون خروج على ص

الجانب اآلخر تفزع من ركنوا إلى اجتهادات السلف أيما فزع، وتضعهم بين شقي الرحى، إن دارت يمينا

طحنت برفض العصر، وإن دارت شماال طحنت برفض العقل، وإن سكنت أبقتهم حيث هم، يهربون من

اجههم به، بل إن شئت الدقة أتحداهم به، وهو أن الشريعة وحدها ال األصل إلى الفرع، ويخفون منطقا أو

تستقيم وجودا أو تطبيقا إال في مجتمع إسالمي أو بمعنى أدق دولة دينية إسالمية، وأن هذه الدولة

والجزئيات، وأنهم أعجز من أن يصيغوا مثل هذا البرنامج أو يتقدموا به، وأنهم يهربون من الرحى برميها

ؤوسنا، داعين إيانا إلى تطبيق الشريعة اإلسالمية، التي تقودنا بالحتم إلى دولة دينية إسالمية، نتخبط فوق ر

فيها ذات اليمين وذات اليسار، دون منارة من فكر أو اجتهاد مستنير، وليحدث لنا ما يحدث، وليحدث

، إن أعجزهم االجتهاد المالئم لإلسالم ما يحدث، وما علينا إال أن نمد أجسادنا لكي يسيروا عليها خيالء

.للعصر رفضوا العصر، وأن أعجزهم حكم مصر هدموا مصر

إنه من المناسب أن أناقش معك أيها القارئ مقولة ذكرتها لك ضمن وجهة نظر الداعين للتطبيق :ثالثا

ه، وسوف لمشاكل( فوري)للشريعة، سوف يتبعه صالح ( الفوري)الفوري للشريعة، وهي قولهم بأن التطبيق

أثبت لك أن صالح المجتمع أو حل مشاكله ليس رهنا بالحاكم المسلم الصالح، وليس أيضا رهنا بتمسك

المسلمين جميعا بالعقيدة وصدقهم فيها وفهمهم لها، وليس أيضا رهنا بتطبيق الشريعة اإلسالمية نصا

لك المنطق وحجتي في ذلك وقائع وروحا، بل هو رهن بأمور أخرى أذكرها لك في حينها، دليلي في ذ

التاريخ، وليس كالمنطق دليل، وليس كالتاريخ حجة، وحجة التاريخ لدى مستقاة من أزهى عصور اإلسالم

.عقيدة وإيمانا، وأقصد به عصر الخلفاء الراشدين

لراشدة، هي كل عمر الخالفة ا( بالتحديد تسعة وعشرون عاما وخمسة أشهر)أنت أمام ثالثين عاما هجريا

عشر سنين وستة أشهر وتسعة )ثم خالفة عمر ( سنتين وثالثة أشهر وثمانية أيام)بدأت بخالفة أبي بكر

أربع )ثم خالفة علي ( إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وتسعة عشر يوما)ثم خالفة عثمان ( عشر يوما

(.سنين وسبعة أشهر

بي بكر قد انصرفت خالل العامين والثالثة أشهر إلى وتستطيع أن تذكر بقدر كبير من اليقين أن خالفة أ

الحرب بين جيشه وبين المرتدين في الجزيرة العربية، وأن خالفة علي قد انصرفت خالل األربعة أعوام

والسبعة أشهر إلى الحرب بين جيشه في ناحية وجيوش الخارجين عليه والرافضين لحكمه في ناحية أخرى،

زبير في موقعة الجمل، وانتهاء بجيش معاوية في معركة صفين ومرورا بعشرات بدءا من عائشة وطلحة وال

الحروب مع الخوارج عليه من جيشه، وأنه في العهدين كانت هموم الحرب ومشاغلها أكبر بكثير من هموم

.الدولة وإرساء قواعدها

شرة أشهر، ويبقى أضف إلى ذلك قصر عهد الخالفتين، حيث لم يتجاوز مجموع سنواتهما ست سنوات وع

أمامك عهد عمر وعهد عثمان، حيث يمكن أن تتعرف فيهما على اإلسالم الدولة في أزهى عصور اإلسالم

، وهي (عهد عثمان)، والثاني حوالي أثنى عشر عاما (عهد عمر)إسالما، وأحد العهدين عشر سنين ونصف

كما يجب أن تكون، فعمر وعثمان من أقرب فترة كافية لكل من العهدين لكي يقدم نموذجا لإلسالم الدولة

الصحابة إلى قلب الرسول وفهمه، واالثنان مبشران بالجنة، ولألول منهما وهو عمر مواقف مشهودة في

نصرة اإلسالم وإعالء شانه، وهي مواقف ال تشهد بها كتب التاريخ فقط، بل يشهد بها القرآن نفسه، حين

و شرف ال يدانيه شرف، وللثاني منهما وهو عثمان مواقف إيمان وخير تنزلت بعض آياته تأييدا لرأيه، وه

.وجود، ويكفيه فخرا أنه زوج ابنتي الرسول، هذا عن الحاكم في كل من العهدين

أما عن المحكومين، فهم صحابة الرسول وأهله وعشيرته ال تحدث واقعة إال تمثل أمامهم للرسول فيها

ال وتداعت إلى خيالهم ذكرى حدث به أو قول فيه وال تغمض أعينهم موقف أو حديث وال يمرون بمكان إ

أمام المنبر إال وتمثلوا الرسول عليه قائما وال يتراصون للصالة خلف الخليفة إال وتذكروا الرسول أمامهم

إماما، وهم في قراءتهم للقرآن يعلمون متى نزلت اآلية، وأين، ولماذا إن كان هناك سبب للتنزيل،

صار يعيشون في ظل النبوة ويتأسون بالرسول عن قرب وحب، هذا عن المحكومين، وال يبقى إال وباخت

.الشريعة اإلسالمية وهي ما ال يشك أحد في تطبيقها في كل من العهدين

بل أنك ال تتزيد إن أعلنت أن هذا العهد أو ذاك، كان أزهى عصور تطبيقها ألنها لزوم ما يلزم في ضوء ما

ا بشأن الحاكم والمحكوم، ومع ذلك فقد كان عهد عمر شيئا وعهد عثمان شيئا آخر فقد ارتفع سبق أن ذكرن

عمر بنفسه وبالمسلمين إلى أصول العقيدة وجوهرها، فسعد المسلمون به، وصلح حال الدولة على يديه،

استشهدنا به، بينما وترك لمن يليه منهجا ال يختلف أحد حوله، وال نتمثل صالح الحكم وهيبة الحاكم إال إذ

قاد عثمان المسلمين إلى االختالف عليه، ودفع أهل الحل والعقد إلى اإلجماع على الخالص منه، إما عزال

في رأي أهل الحجى، أو قتال في رأي أهل الضراب، واهتزت هيبته في نظر الرعية إلى الحد الذي دفع

يا )لى المنبر، أو التصغير من شأنه بمناداته البعض إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين أو حصبه ع

نسبة إلى مسيحي من أهل المدينة كان يسمى نعثال وكان عظيم اللحية كعثمان، أو االعتراض عليه من ( نعثل

كبار الصحابة بما يفهم منه دون لبس أو غموض أنه خارج على القرآن والسنة، ووصل األمر إلى الدعوة

اقتلوا نعثال لعن اهلل نعثال، وهي كلها أمور ال تترك لك : عن عائشة قولهاالصريحة لقتله، حيث يروي

.مجاال للشك فيما وصل إليه أمر الخليفة قبل رعيته، وما وصل إليه أمر الرعية قبل الخليفة

وعلى الرغم من أن عمر وعثمان قد ماتا مقتولين، إال أن عمر قد قـتل على يد غالم من أصل مجوسي،

تله غصة في نفوس المسلمين، وأثار في نفوسهم جميعا الروع والهلع لفقد عظيم األمة، ورجلها الذي وترك ق

ال يعوض، بينما على العكس من ذلك تماما، ما حدث لعثمان عند مقتله، فقد قتل على يد المسلمين الثائرين

لهم بمصرعه على أيديهم، المحاصرين لمنزله وبإجماع منهم، وقد تتصور أن قتلة عثمان قد أشفوا غلي

وانتهت عداوتهم له بموته، لكن كتب التاريخ تحدثنا برواية غريبة ليس لها نظير سابق أو الحق، وإن كانت

:لها داللة ال تخفى على أريب

:934فالطبري يذكر في كتابه تاريخ األمم والملوك الجزء الثالث ص

حكيم ابن حزام وجبير بن مطعم ونيار بن " ثم حمله أربعة لبث عثمان بعدما قتل ليلتين ال يستطيعون دفنه )

فلما وضع ليصلي عليه جاء نفر من األنصار يمنعوهم الصالة عليه فيهم أسلم " مكرم وأبو جهم بن حذيفة

بن أوس بن بجرة الساعدي وأبو حية المازني ومنعوهم أن يدفن بالبقيع فقال أبو جهم ادفنوه فقد صلى اهلل

فلما ملكت ( مقابر اليهود)ه فقالوا ال واهلل ال يدفن في مقابر المسلمين أبدا فدفنوه في حش كوكب عليه ومالئكت

( بنى أمية أدخلوا ذلك الحش في البقيع

، (أقبل عمير بن ضابئ، وعثمان موضوع على باب فنزا عليه فكسر ضلعا من أضالعه)وفي رواية ثانية

ب حين رماه المسلمون بالحجارة فاحتمى حاملوه بجدار دفنوه فوقع وفي رواية ثالثة أنهم دفنوه في حش كوك

.دفنه في حش كوكب

هذا خليفة المسلمين الثالث، يقتله المسلمون، ال يستطيع أهله دفنه ليلتين ويدفنوه في الثالثة، يرفض المسلمون

ارة، يعتدي مسلم على الصالة عليه، بقسم البعض أال يدفن في مقابر المسلمين أبدا، يحصب جثمانه بالحج

.جثمانه فيكسر ضلعا من أضالعه، ثم يدفن في النهاية في مقابر اليهود

أي غضب هذا الذي يالحق الحاكم حتى وهو جسد مسجى، وينتقم منه وهو جثة هامدة، وال يراعي تاريخه

نه مبشرا بالجنة في السبق في اإلسالم والذود عنه، وال عمره الذي بلغ السادسة و الثمانين، ويتجاهل كو

وزوجا البنتي الرسول، ويرفض حتى الصالة عليه أو دفنه في مقابر المسلمين شأنه شأن أفقرهم أو

هو غضب ال شك عظيم، وخطب ال ريب جليل، وحادث ال تجد أبلغ منه تعبيرا عن رأي . أعصاهم

رضي اهلل عنه ليس ركنا من المسلمين في حاكمهم، وأمر ال يؤثر في اإلسالم من قريب أو بعيد، فعثمان

أركان اإلسالم، وإنما هو بشر يخطئ ويصيب، وحاكم ليس له من الحصانة أو القدسية ما يرفعه عن غيره

.من المسلمين، لكنك ال تملك إال أن تتساءل معي وأن تجيب

الحل والعقد، ألم يكن عثمان وقت اختياره واحدا من خيار المسلمين، مبشرا بالجنة وأحد ستة هم أهل*

وأحد اثنين لم يختلف المسلمون على أن الخالفة لن تخرج عنهما وهما عثمان وعلي؟

(بلــــى)واإلجابة

ألم يكن المسلمون في أعلى درجات تمسكهم بالعقيدة، وأقرب ما يكونون إلى مصدرها األول وهو القرآن *

سول وناقلين عنه ما وصلنا من حديث وأحداث؟ومصدرها الثاني وهو السنة، بل كان أغلبهم أصحابا للر

(بلــــى)واإلجابة

ألم تكن الشريعة اإلسالمية مطبقة في عهد عثمان رضي اهلل عنه؟*

(بلــــى)واإلجابة

أن صلح حال الرعية؟ و ( حاكم صالح ومسلمون عدول وشريعة إسالمية مطبقة)هل ترتب على ما سبق *

وساد األمن و األمان؟ حسن حال الحكم؟ وتحقق العدل؟

(.ال)واإلجابة

وهنا نصل سويا إلى مجموعة من النتائج نستعرضها معا عسى أن تحل لنا معضلة التفسير وأن تجيب معنا

(.لماذا)على السؤال الحائر و موجزه لفظ

:النتيجة األولى

ى بتطبيق الشريعة، وإنما يتحقق أن العدل ال يتحقق بصالح الحاكم، وال يسود ال بصالح الرعية، وال يتأت

، وأقصد به الضوابط التي تحاسب الحاكم إن أخطأ، وتمنعه إن (نظام حكم)بوجود ما يمكن أن نسميه

تجاوز، وتعزله إن خرج على صالح الجماعة أو أساء لمصالحها، وقد تكون هذه الضوابط داخلية، تنبع من

ا نادر الحدوث، لكن ذلك ليس قاعدة وال يجوز ضمير الحاكم ووجدانه، كما حدث في عهد عمر، وهذ

.الركون إليه، واألصح أن تكون مقننة ومنظمة

فقد واجه قادة المسلمين عثمان بخروجه على قواعد العدل بل وأحيانا بخروجه عل صحيح جوهر اإلسالم،

قواعد لتسيير أمور فلم يغير من سياسته شيئا، وبحثوا فيما لديهم من سوابق حكم فلم تسعفهم سابقة، ومن

الدولة فلم يجدوا قاعدة، وأشتد عليهم األمر فحاصروه وطلبوا منه أن يعتزل، وألن قاعدة ما في األمر لم

، وحين اقترب األمر (أي ألبسنيه اهلل)تكن موجودة، فقد أجابهم بقوله الشهير واهلل ال أنزع ثوبا سربلنيه اهلل

ن مالقاة حتفه على يد رعيته، أرسلوا إليه عرضا فيه من المنطق من نهايته، وأصبح قاب قوسين أو أدنى م

.الكثير ومن الصواب ما ال يختلف عليه

:فقد خيروه بين ثالث

ويستمر بعدها خليفة بعد إدراكه أنه ( أي أن يعاقب على أخطائه شأنه شأن أي مسلم يخطئ)إما اإلقادة منه -

.ال خطأ دون عقاب

(.أي أن يعتزل الخالفة بإرادته)مارة وإما أن يتبرأ من اإل -

(.أي أن يعتزل الخالفة بإرادة الرعية)وإما أن يرسلوا األجناد وأهل المدينة لكي يتبرأوا من طاعته -

وهم يخيرونني إحدى ثالث إما يقيدونني بكل )فكان رده كما ورد في رسالته األخيرة كما انتسخها بن سهيل

تروك منه شئ، وإما أعتزل األمر فيؤمرون آخر غيري وإما يرسلون إلى رجل أصبته خطأ صوابا غير م

من أطاعهم من األجناد وأهل المدينة فيتبرأون من الذي جعل اهلل سبحانه لي عليهم من السمع والطاعة فقلت

لهم أما إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يستقدمن أحد منهم وقد علمت إنما

ون نفسي وأما أن أتبرأ من اإلمارة فإن يكلبوني أحب إلى من أن أتبرأ من عمل اهلل عز وجل وخالفته يريد

وإما قولكم يرسلون إلى األجناد وأهل المدينة فيتبرأون من طاعتي فلست عليكم بوكيل ولم أكن استكرهتهم

(.من قبل على السمع والطاعة ولكن أتوها طائعين

أبو بكر )أن مراجعة الخليفة على الخطأ لم تكن واردة فيمن سبقه من الخلفاء هنا يوضح عثمان بصراحة

أو على األقل ليس لها قاعدة، وهنا أيضا يعلن بال مواربة أنه مصر على تمسكه بالحكم حتى النهاية ( وعمر

ت وأن اعتزاله غير وارد، وهنا أيضا يواجه الدعوة إلى سحب البيعة بمنطق غريب مضمونه، وهل كن

.أكرهتكم حين بايعتم؟ وكأن البيعة أبدية وال مجال لسحبها أو النكوص عنها

ال قاعدة إذن وال نظام للرقابة، واألمر كله موكول لضمير الحاكم إن عدل وزهد كان عمر، وإن لم يعدل

.ويمسك بالحكم كان عثمان

:قواعد اآلتيةيستند إلى ال( من وجهة نظره)لقد أعلن عثمان أن نظام الحكم اإلسالمي

خالفة مؤبدة -

.ال مراجعة للحاكم وال حساب أو عقاب أن أخطأ -

ال يجوز للرعية أن تنزع البيعة منه أو تعزله، ومجرد مبايعتها له مرة واحدة، تعتبر مبايعة أبدية ال يجوز -

.ألصحابها سحبها وإن رجعوا عنها أو طالبوا المبايع باالعتزال

يتصور أن تكون هذه هي مبادئ الحكم في اإلسالم، قتله المسلمون، لكن السؤال يظل وألن أحدا ال يقر وال

حائرا، ومضمونه، هل هناك قاعدة بديلة؟

أو نظام حكم واضح المعالم في اإلسالم؟

هل هناك قاعدة في القرآن والسنة تحدد كيف يبايع المسلمون حاكمهم، وتضع ميقاتا لتجديد البيعة، وتحدد

عزل الحاكم بواسطة الرعية، وتثبت للرعية حقها في سحب البيعة كما تثبت لها حقها في إعالنها، أسلوبا ل

وتعطي المحكومين الحق في حساب الحاكم وعقابه على أخطائه، وتنظم ممارستهم لهذا الحق؟

ن، وحرص أعتقد أن السؤال كان حائرا وال يزال، بل إن السؤال نفسه قد اختفى بعد عهد الخلفاء الراشدي

المزايدون والمتزيدون في عصرنا على إخفائه، تجنبا للحرج، وتالفيا للخالف، ونأيا بأنفسهم عن االجتهاد

.وهو أمر بالنسبة لهم عسير، ربما عن قعود، وربما عن جمود، وربما عن عجز

:النتيجة الثانية

ت وحدث ما حدث، وأخطر من تطبيقها إن تطبيق الشريعة اإلسالمية وحده ليس هو جوهر اإلسالم، فقد طبق

بكثير وضع قواعد الحكم العادل المتسق مع روح اإلسالم، فقد رأينا أن الشريعة كانت مطبقة، وأن الحاكم

.كان صالحا، وإن الرعية كانت مؤمنة، وحدث ما حدث، لغياب ما غاب، وأظنه ال يزال غائبا

بدء بالوجه العقابي لإلسالم، وهو ما حدث حين أعلن ولعل ما حدث في السودان خير دليل على مغبة ال

الحاكم عن تطبيق الشريعة اإلسالمية وبدأ في إقامة الحدود في مجتمع مهدد بالمجاعة، األمر الذي ترتب

عليه أن أصبح أنصار تطبيق الشريعة اإلسالمية بعد تلك التجربة أقل بكثير من أنصارها قبل التطبيق،

ليس بالفرع، وبالجوهر وليس بالمظهر، وبالعدل قبل العقاب، وباألمن قبل القصاص فالبدء يكون باألصل و

.وباألمان قبل الخوف، وبالشبع قبل القطع

:النتيجة الثالثة

إنك إن انتقلت من عهد عثمان إلى عهدنا الحاضر، ال تجد شيئا قد اختلف أو استجد سواء بالنسبة لحل

هة السلطة إن انحرفت، من خالل منظور إسالمي، ودونك ربطهم بين مشاكل المجتمع، أو بالنسبة لمواج

.تطبيق الشريعة وحل مشاكل المجتمع، واسألني وأسأل نفسك

كيف ترتفع األجور وتنخفض األسعار إذا طبقت الشريعة اإلسالمية؟*

كيف تحل مشكلة اإلسكان المعقدة بمجرد تطبيق الشريعة اإلسالمية؟ *

الديون الخارجية بمجرد تطبيق الشريعة اإلسالمية؟ كيف تحل مشكلة *

كيف يتحول القطاع العام إلى قطاع منتج بما يتناسب وحجم استثماراته في ظل تطبيق الشريعة *

اإلسالمية؟

والمدعين أنها سوف يترتب عليها ( للشريعة)هذه مجرد عينات من األسئلة، على الداعين للتطبيق الفوري

كل المجتمع أن يجيبوا عليها، وهم إن حالوا اإلجابة وجدوا أنفسهم أمام المأزق الذي يدور لمشا( فوري)حل

من اجتهادات القرن ( النقلى)هذا الحوار حوله، وهو وضع برنامج سياسي متكامل، بل إن تفرغهم لإلبداع

لى مفهوم الربا إن طبقت الثاني الهجري يمكن أن يقودهم إلى تعقيد المشاكل بدال من حلها، فالنظرة الضيقة إ

في عالم اليوم، سوف تقود إلى ارتباك هائل في سوق المال وسوف تلجئ إلى تحايل نرى مالمحه في تجربة

.البنوك اإلسالمية، وربما أدت إلى الخراب بدال من التنمية، والكساد بديال عن الرواج

أن الشريعة ال تقود إلى ذلك، بل إنه اجتهاد وقبل أن تفغر فاك مندهشا أو ترفع يدك معترضا دعني أذكر لك

القرن الثاني الهجري هو الذي يقود إذا طبق في عالم تغيرت معالمه تغيرت معالمه، وتبدلت أحواله، وعرف

أنماطا من التعامل لم يعرفها السلف، وطرأت فيه من المتغيرات ما ال يقصر االستدانة على الحاجة، أو

ض الغير، وعرف التضخم الذي يترتب عليه خفض القوة الشرائية للنقود، إلى غير االدخار على مفهوم إقرا

.ذلك مما ال يسعه حصر ولم يشمله اجتهاد بعد، اللهم إال اجتهاد في مناخ غير المناخ، ولعصر غير العصر

ل وبين هذا عن الربا، فماذا عن األجور واألسعار واإلسكان، هل هناك عالقة بين هذه الظواهر أو المشاك

تطبيق الشريعة، المؤكد أنهال عالقة وال ارتباط، لكن االرتباط قائم ومؤكد إن كان الحديث عن برنامج

سياسي ينتظم مفردات المجتمع بما فيه الشريعة في منظومة ال تتناقض مع اإلسالم وال تتصادم مع متغيرات

.الواقع

:النتيجة الرابعة

واجهة، وبين النكوص واإلقدام، وبين المظهرية والجوهر، فالمجتمع لن إننا يجب أن نفرق بين الهروب والم

يتغير والمسلمون لن يتقدموا بمجرد إطالة اللحية و حلق الشارب، واإلسالم لن يتحدى العصر بإمكانيات

التقدم بمجرد أن يلبس شبابنا الزي الباكستاني، ومصر لن يتألق وجهها اإلسالمي الحضاري بمجرد أن

ويرد عليه اآلخر التحية بأحسن منها ( خزعل)الشباب بغير أسمائهم فيدعو الواحد منهم اآلخر باسم يتنادى

(.عنبسة)فيدعوه

واللحاق بركب التقدم العلمي لن يحدث بمجرد استخدام السواك بديال عن فرشاة األسنان أو تكحيل العينين أو

في شأن التماثيل أو الصور أو ( حبس الظل)ة مثل نظرية استعمال اليد في الطعام أو االهتمام بالقضايا التافه

إضاعة الوقت في الخالف حول طريقة دخول المرحاض وهل تكون بالقدم اليمنى أم اليسرى، وميقات

ظهور المهدى المنتظر، ومكان ظهور المسيخ الدجال، فكل هذه قشور، والغريب أنها تشغل أذهان الشباب

.م جوهر الدين وحقيقتهوبعض الدعاة بأكثر مما يشغله

وهو جوهر ال يتناقض مع التقدم بحال، وهي حقيقة ال تتوقف أمام هذه األمور الصغيرة، ولعلي أعترف لك

أيها القارئ أنني حزين أشد الحزن، ومكلوم حقيقة ال مجازا، وأنا أشهد شبابنا وقد امتأل رأسه بهذه األمور

مدعى إحياء اإلسالم، وهم يرسخون فيه هذه األسس، بل التافهة، وأشهد قادته من أصحاب الطموح، و

.والتفرغ للعبادة( العلمانية)أو األعمال ( الوضعية)ويتجاوزون ذلك إلى دعوته لترك العلوم

هل هذا هو وجه اإلسالم الحقيقي، وهل هذا هو ما سنواجه به القرن الحادي والعشرين، وهل هؤالء الذين

م هم الصالحون لقيادة المجتمع، وهل أقبل منهم أو تقبل منهم دعوتهم للدولة يسيئون قيادة أنفسهم وأتباعه

الدينية وهم ال يتمسكون من الدين إال بالقشور، وال يعرفون من العقيدة إال مظهرها الذي ال أصل له في

فصيال كتاب اهلل، وال سند له إال التأسي بالرسول في مسايرته لعصر غير عصرنا، ولمجتمع يختلف جملة وت

عن المجتمع الذي نعيشه، وليتهم تأسوا به وهو يدعو للرحمة، ويستنكر قتل المسلم للمسلم، ويدعو لطلب

العلم ولو في الصين، ويستنكر اعتزال العمل للعبادة، ويعدل في قسمته بين الدين والدنيا، ويعلن حكمته

.مالخالدة لألجيال التالية له، ومضمونها أنهم أعلم بشئون دنياه

هؤالء قوم كرهوا المجتمع فحق للمجتمع أن يبادلهم كرها بكره، ولفظوه فحق له أن يلفظهم، وأدانوه

بالجاهلية فحق له أن يدينهم بالتعصب وانغالق الذهن، وخرجوا عليه فحق له أن يعاملهم بما اختاروه

األوصياء على الجميع، وهم ألنفسهم، معاملة الخارجين على الشريعة والقانون، ووضعوا أنفسهم في موضع

أولى الناس بأن يعاملوا معاملة المحجور عليهم، وهم من قبل ومن بعد، أساءوا لإلسالم ذاته حين ادعوا عليه

ما ليس فيه وأظهروا منه ما ينفر القلوب، وأعلنوا باسمه ما يسئ إليه، وأدانوه بالتعصب وهو دين السماحة،

ووصموه باالنغالق وهو دين التفتح على العلم و العالم، وعكسوا من واتهموه بالجمود وهو دين التطور،

.أمراضهم النفسية عليه ما يرفضه كدين، وما نرفضه كمسلمين

هو الهروب ألنه أسهل من المواجهة، وهو النكوص ألنه أهون من اإلقدام، وهي المظهرية ألنها أيسر من

الون في المطالبة بالشريعة، وهي مطالبة تتسق مع ما إدراك الجوهر، وهم في مزايدتهم على المظاهر يغ

درجوا عليه واتسق تفكيرهم معه، فتطبيق الشريعة في مجتمعنا الحالي، على ما تركه السلف دون اجتهاد

ومراجعة، إنما تمثل مظهرا ال غناء فيه، وظاهرا من األمر ال جوهر له، ومجرد إطار شكلي ال مضمون

طار والمضمون فهو ما أشرت إليه من قواعد تنظم المجتمع على أساس ال تتناقض داخله، أما الجوهر واإل

مع جوهر الدين في شئ، وال تصطدم مع معطيات العصر في إطارها العام، وهو مطلب بالنسبة لهم عسير،

فهم مطالبون أوال أن يروا العصر على حقيقته قبل أن ينظروا له، وأن يعيشوه قبل أن يبرمجوه، وأن

يتفاعلوا معه قبل أن يخططوا مستقبله، وهم في النهاية سحابة صيف ال أشك أنها إلى زوال، وغيم داكن ال

.أحسب إال أنه إلى انقشاع

إن أصحاب وجهة النظر األولى، وأقصد بهم الداعين إلى التطبيق الفوري للشريعة اإلسالمية، :رابعا

قصد نتيجة عدم إيمانهم بها كما أسلفت، وإما عن حسن نية يضمرون عداء ال حد له للديموقراطية، إما عن

من الكثيرين الذين يدفعهم حماسهم للشريعة إلى المطالبة بإقرارها بعرضها على مجلس الشعب، دون أن

تناقش على نطاق شعبي واسع، مع تلويحهم بسيف الخروج عن الدين ألعضاء المجلس، إن هم رفضوا أو

البعض فيحالون القفز فوق المجلس، متوجهين مباشرة إلى رئيس الجمهورية، تأنوا أو ترددوا ويتجاوز

.موضع التنفيذ الفوري الناجز –هكذا –ومطالبين له بوضعها

وألن األمر كما أوضحت ليس أمر شريعة بل أمر اختيار بين الدولة الدينية والدولة المدنية، وهو اختيار كما

وهو الدولة المدنية، وبديل آخر لم يجهد أصحابه أذهانهم في شرحت من قبل، بين بديل واضح ومطبق

بلورته وتوضيحه وهو الدولة الدينية، فأنه من الصعب واألمر كذلك أن يقضى بشأن هذا األمر في جلسة أو

اثنتين، أو في أسبوع أو اثنين، بل إنني أتصور سبيال آخر لطرح هذا األمر ومناقشته، وهو سبيل أرى أنه

واألصح، ليس فقط من وجهة نظري، بل إنه لزوم ما يلزم بالنسبة ألمر هذا شأنه، وتلك طبيعته، األوفق

ولعلي قبل أن أعرض تصوري في هذا الشأن، أتسمع رأي المعارضين لقولي جملة وتفصيال، وكأني بهم

لديموقراطية وفقا يقولون، ها هو يلتوي بالكلم، وينكر علينا حقا يرضاه لآلخرين ويطلبه لنفسه، ويتصور ا

على آرائه ونظرائه، وال يلتزم بالدستور الذي أقر أن تكون مبادئ الشريعة اإلسالمية هي المصدر الرئيسي

للقوانين، وال يلزم نفسه بإرادة األمة التي أنشأت هذا التعديل، وتمثلت في استفتاء شعبي أعطى التأييد الكامل

.قشة، وتستحق بالفعل كثيرا من التوقف والتأملله، وهي كلها آراء جديرة بالبحث والمنا

أما عن الدستور فال أحسب أنه قد جاء بجديد، فأغلب القوانين القائمة مستمدة من مبادئ الشريعة اإلسالمية،

مما يجعل منها المصدر الرئيسي للتشريع في مصر، مع مالحظة أرى أن إبداءها واجب، وتتلخص في أن

سا، وأنه يحق ألي مواطن أن يختلف مع بنوده أو أن يعترض عليها، وله أيضا أن الدستور ليس كتابا مقد

يطالب بتعديلها، على أن يسلك في هذا السبيل ما نظمه الدستور نفسه من سبل لتعديل مواده أو إلغائها أو

النص اإلضافة إليها، بل أن أصحاب وجهة النظر األولى يعترضون على الكثير من نصوص الدستور، مثل

على تعدد األحزاب األمر الذي يختلف عن اعتقادهم في قصرها على حزبين هما حزب اهلل وحزب

الشيطان، بل ويتجاوز أغلبهم تلك الجزئية إلى االعتراض على ما يتعلق بنظام الحكم في الدستور جملة

.وتفصيال

ذ عليهم، ويستندون للدستور وهو ما بالهم إذن يلقون الحجة وهي مردودة إليهم، ويطلقون الرأي وهو مأخو

..غير مقبول منهم

وقريب من ذلك احتكامهم إلى اإلستفتاء دليال على التأييد الشعبي ورفضهم االعتراف بشرعية جميع

االستفتاءات التي حدثت منذ اختلفت معهم الثورة وحتى اآلن، عدا استفتاء واحد صادف هوى في نفوسهم،

بهم في أحالم وردية وامتشقوه سالحا يخرسون به األلسنة، ويذودون به ومس من قلوبهم الشغاف، وحلق

.عن أوهامهم حينا وأحالمهم أحيانا

هو الهوى حين يتسلط، والغرض حين يستبد، والمنطق حين يهرب، والعقل حين تغشاه العاطفة، والحجة

.حين يشوبها الضعف والكالم حين يحتوى خبيئا، معناه ليست لنا عقول

س الدستور إذن هو السند، و ليس االستفتاء هو الحجة، وإنما سبيلهم الوحيد كما أتصور، أن يفعلوا ما فعله لي

اآلخرون، وهو أن يتقدموا إلى الشعب ببرنامجهم السياسي، وأن يشكلوا حزبهم أو أحزابهم، فإن حازوا

فعل السديد، و قد اخترت لفظ األغلبية في انتخابات حرة فقد ألزمونا بالحجة الدامغة، وأخرسونا بال

عن قصد العتقادي أنه سوف يكون واقعا ال مراء فيه، ففاقد الديموقراطية ال يعطيها، لكنه إن ( أخرسونا)

.توصل للحكم بإرادة الشعب كان له ما أراد

و نص هنا قد يحتج القارئ بأن القوانين الحالية ال تتيح لهم تشكيل أحزاب على أساس العقيدة الدينية، وه

قانوني له وجاهته، لكون األحزاب السياسية منبرا لكل المصريين مهما اختلفت عقائدهم، لكني أحسب أن

المناخ الرديء قد تجاوز ذلك وأن اإلخوان المسلمين على سبيل المثال يملكون حزبا، ومكتب إرشاد،

مر إلى تواجد ممثلين لهم في وصحفا ومجالت حزبية وغير حزبية تدافع عنهم وتتبنى آراءهم بل ووصل األ

المجلس النيابي بعد تحالف الوفد واإلخوان المسلمين، ذلك التحالف الذي يشبهه بعض الظرفاء بزواج المتعة

.الذي تعترف به بعض طوائف الشيعة وتنكره طوائف السنة

في الرمال، هم موجودون إذن، وهم توصلوا بالشرعية إلى تواجد شرعي، وإنكار تواجدهم إخفاء للرؤوس

والسماح لهم ولغيرهم من التيارات السياسية الدينية بتشكيل أحزابهم له من المزايا ما ال يستهان به، فسوف

يلزمون بوضع برامج سياسية، وسوف يدور الحوار معهم على أرض الواقع السياسي، وسوف يكون حوار

ة، وسوف يحجم أئمة المساجد عن دنيا ال حوار دين وسوف يكون هدفهم كراسي الحكم ال قصور الجن

.المزايدة على مقوالتهم لدخولهم آنذاك في دائرة العمل السياسي الصريح

وسوف تتحول األحزاب السياسية إلى معارضتهم بدال من المزايدة عليهم، وسوف يختلفون فيما بينهم بأكثر

ون اآلخرين، وسوف من اختالفهم مع اآلخرين، وسوف يواجهون بعضهم البعض بأكثر مما يواجه

يتحاورون في ساحة ليست ساحتهم، ويتكلمون لغة تصعب عليهم مفرادتها ناهيك عن قواعدها، وفي كل هذا

رحمة من اهلل أي رحمة، ولطف بالوطن أي لطف، وال حجة هنا للقائلين بأن ذلك سوف يدعو إلى إنشاء

ريخ ينبئنا بأن ذلك غير وارد، وإن ورد فال أحزاب دينية قبطية، وأنه سوف يمزق الوطن طائفيا، فدرس التا

تأثير له، وغير بعيد عن األذهان حزب أخنوخ فانوس، الذي تكون وقضى دون أن يزيد عدد أفراده على

اآلحاد، وغير بعيد تجربة الوفد حين استوعب األغلبية الساحقة من أقباط مصر، الذين تحتويهم دائما راية

ها، وهو أمر ما زالت أسبابه قائمة، وحديث ذلك يطول، وهو في مجمله حديث العلمانية، وتستهويهم شعارات

.يهون من أسباب التخوف وال يدعمها، ويؤكد ما أدعو إليه وال ينفيه

هذه هي وجهة النظر الثانية أيها القارئ، أفضت فيها لكثرة ما أفاض أصحاب وجهة النظر األولى في

أنك إلى اختيار، وأن التفكير الهادئ سوف يقودك إلى قرار، بل عرض آرائهم وتزيينها، وأحسب بعد ذلك

إنني أحسب أنك توصلت بعد ما سبق إلى مجرد التردد فسوف أحمد اهلل، ولعلك أدركت معي أنهم قد اختاروا

الطريق السهل، وأن اتباعهم إلى ما ال تعلم وما ال يعلمون أمر جلل، وأن يجتهدوا قبل أن يجهدوا اآلخرين

ال غناء فيه، وأن يفكروا قبل أن يكفروا، وأن يواجهوا مشاكل المجتمع بالحل ال بالهجرة، وأن يقتصدوا بحلم

في دعوى الجاهلية حتى ال تقترن بالجهل، وأن يعلموا أن اإلسالم أعز من أن يهينوه بتصور المصادمة مع

ل يصنعه القلم ال السواك، العصر، وأن الوطن أعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصب، وأن المستقب

والعمل ال االعتزال، والعقل ال الدروشة، والمنطق ال الرصاص، واألهم من ذلك كله أن يدركوا حقيقة غائبة

. جماعة المسلمين.. وهي أنهم ليسوا وحدهم. عنهم

قراءة جديدة في أوراق الراشدين

رضناه في الفصل األول حول مصرع للقارئ أن يحزن ومن حقه أن يتعجب، وهو يستعرض معنا ما ع

عثمان، أما الحزن فأسبابه مفهومة، وأما التعجب فأبوابه كثيرة، إن سددت منها بابا وحسبت أنك استرحت،

انفتحت عليك أبواب، وأثـقلتك هموم، وحسبك أنك إن أدنت ال تدري من تدين، فأنت إن أدنت الثائرين ال

مان ال تملك أن تبرئ الثائرين، وأنت إن أدنت الثائرين ال تملك إال تملك أن تبرئ عثمان، وأنت إن أدنت عث

أن تتعاطف معهم في نوازعهم، وأنت إن أدنت عثمان ال تملك إال أن تتعاطف معه في مصرعه، ولعلك

بحكم العاطفة الدينية أقرب إلى إنصاف عثمان، وإلى تلمس األعذار له، لكنك تصطدم في سبيلك هذا بأقوال

حابة وأفعالهم ودعوة بعضهم الصريحة إلى حمل السيف والخروج عليه، فهذا عبد الرحمن بن كبار الص

إن شئت أخذت سيفك وأخذ سيفي، فقد خالف ما أعطاني ثم يقول لبعض في المرض الذي : عوف يقول لعلي

من أن عالجوه قبل أن يطغي ملكه وهذا طلحة في المرض يؤلب الثائرين حتى ال يجد علي مفرا: مات فيه

يفتح بيت المال، ويوزع من أمواله عليهم حتى يتفرقوا، ويقره عثمان على ما فعل، ولن تمر شهور حتى

يقتل عثمان، وحتى يخرج طلحة نفسه مطالبا بالثأر له في جيش عائشة، وحتى يصاب بسهم رماه به مروان

ثين عاما، ورفيق طلحة في الجيش بن الحكم، صفى عثمان وساعده األيمن، وخليفة المسلمين بعد ذلك بثال

الثائر من أجل الثأر، وساعتها سوف يدرك طلحة أنها النهاية، فيردد في لحظات الصدق مع النفس ومع اهلل،

هذا سهم رماني به اهلل، اللهم خذ لعثمان منى حتى ترضى، وهو قول بالغ الداللة على صحوة الضمير،

عا، وإنما كان مسايرا لفعل أصحابه، وهم أنفسهم صحابة الرسول، وتيقن الخطأ، ولم يكن طلحة في هذا مبتد

غاية ما في األمر أنه كان أكثر تطرفا، فأهلك وهلك، أما علي والزبير وابن مسعود وعمار وغيرهم، فقد

تراوحوا في معارضتهم بين العنف واللين، وانتهوا ما انتهى إليه طلحة، حين هلك بعضهم معه، وتأخر

.حين البعض إلى

حدث ما حدث، وقتل المسلمون بسيوف المسلمين، وهلك الصحابة بسيوف الصحابة، وبقيت دالالت

الحوداث تؤرق أذهاننا حتى اليوم، واختلف الفقهاء حتى يومنا هذا مع ما لم يتمن أحد أن يناقش، ناهيك عن

ن، ويحلو للبعض أن ينسب ، أي مشروعية قتال المسلمين للمسلمي(شرعة قتال أهل القبلة)أن يحدث، وهو

نشأة هذه الظاهرة إلى أوائل عهد علي، لكنا نعود بها إلى عهد أبي بكر، حين نتوقف أمام حروب الردة

متأملين مفرقين بين قتال أبي بكر للمرتدين عن اإلسالم، وبين قتاله للممتنعين عن دفع الزكاة له أو لبيت

بسيط، يسلم بارتداد الفريق األول، ويتحرز في وصف الفريق المال، ولنا في التفرقة بين الفريقين منطق

الثاني بالردة، فقد كانوا ينطقون بالشهادتين، ويؤدون جميعا دون إنكار، ويؤدون الزكاة نفسها لكن للمحتاج

، منصرفة إلى الرسول، (خذ من أموالهم)وليس للخليفة أو لبيت المال، وكانت حجتهم في ذلك اآلية الكريمة

إليه، وال يجوز أن تنصرف لغيره، ألنها لم توجه إلى غيره، حتى لو كان هذا الغير خليفة الرسول، موجهة

ولعلنا ونحن نتأمل ونفرق، وربما نتعاطف، نستحضر في أذهاننا موقف عمر من أبي بكر، وهو يسائله عن

، يقصد بهذا الحق أداء (حقها)حجته في قتل من ينطق بالشهادتين، فيجيبه أبو بكر بما يعنى أن للشهادة

الزكاة لبيت المال، وهو اجتهاد مجهد وجهيد، ولعل عمر كان يستحضر في ذهنه وهو يحاور أبا بكر حديث

الرسول عن أن المسلم ال يقتل إال لثالث، إن زنى بعد إحصان، أو أرتد بعد إيمان، أو قصاصا لقتل النفس

ق الشهادتين، مؤدى الصالة، صائم رمضان، حاج البيت بغير حق، ولعله كان يرى أن نفى اإليمان عن ناط

أن استطاع لذلك سبيال، مؤدى الزكاة إلى المحتاج دون وساطة، أمر أن لم يتسع له اإلنكار، ونظنه يتسع له،

فال بد أن يضيق به باب القبول أي ضيق، ولعلنا إلى مثل ذلك الضيق أقرب، بل لعلنا منكرون كل اإلنكار،

.ا أكثر مما يتصل بعمر أو بأبي بكرلسبب يتصل بن

فنحن نفعل ما فعله أولئك القوم تماما، وندفع الزكاة للمحتاج كما كانوا يدفعونها تماما، وال ندفعها مثال

لوزارة الخزانة أو لرئيس الجمهورية، وإن جاز ألبي بكر قتالهم وقتلهم، فإنه يجوز للبعض أن يخرجوا علينا

يشفع لنا عندهم أن نرفع عقيرتنا بالنطق بالشهادتين، وال أن نقسم على أننا ملتزمون مقاتلين وقاتلين، ال

بأركان الدين ملزمون ألنفسنا بها، ولوال أننا لم نجد في ديننا عصمة لغير النبي، ولوال أيضا أننا نرى أن

النص على اسمه في كتاب اجتهاد أبي بكر من يليه، وإال لسلك جميع جمع الخلفاء سبيله في تولية من يليه، ب

مغلق يبايعون عليه مغلقا، وهو ما لم يأخذ به أحد بعده، لوال هذا كله، ولوال إيماننا بأن اإلسالم حق، والقرآن

.حق، ونبوة األنبياء حق، وبشرية غيرهم حق، ما تناولنا ما أوردناه

فلوال ما . اب آخر هو باب السياسةو ما استطردنا فذكرنا أن أبا بكر كان على حق، إذا ناقشنا األمر من ب

فعل ما أصبح لإلسالم دولة ثابتة األركان، متينة البينان، تفتح البلدان، وتنشر العقيدة وتثبت دعائمها، ولقد

اجتهد أبو بكر في السياسة فأصاب دون شك، واجتهد في الدين فأصاب أجرين في رأيه، وأجرا واحدا في

أصاب أجرا واحدا أن السياسة قد تتناقض مع قواعد الدين وأصوله، تلك رأينا، وربما أثبت لمن يرونه

.المحفوظة لنا تماما كما وجدها، وكما نجدها قرآنا وسنة

وما كان اجتهادنا إال اجتهادا وما كان ألحد أن يزعم أن اجتهاد أبي بكر أصل من أصول العقيدة أو ركيزة

ما قد يراه من أن قرار أبي بكر كان سياسيا وليس دينيا، وبمعنى من ركائز اإليمان، وما كان لنا أن نؤيد

آخر كان علمانيا يفصل بين السياسة والدين، فنحن ال نود أن نرد على تعسف في االجتهاد بتعسف في

اإلستنتاج، ولعل فيما ذكرناه ونذكره الكفاية الستنزال اللعنات علينا ممن يرون في أسماء الصحابة قدسا من

قداس، وفي أفعالهم طوطما ال يمس، وحسبنا أن نذكرهم بحديث الرسول الكريم، عن أن عمار بن ياسر األ

سوف تقتله الفئة الباغية، وهو حديث ثابت وصحيح، ألن الجميع تذكره حين قتل عمار، تذكره جيش علي

".من أخرجه قتله" فتهلل، وتذكره جيش معاوية فتزلزل، ولم يهدئ روعه إال رد معاوية المحنك

غير أنا نرى األمر بعد هذه السنوات عظيما وجليال وذا خطر، ونقرأه بعد كل هذه السنوات فنتزلزل، فإحدى

الفئتين باغية ال شك، ولو سلمنا بظاهر الحديث لحكمنا عل جيش معاوية بالبغى، وألصبح معاوية باغيا

.يد اهلل بن عمر باغيا، وغيرهم وغيرهموعمرو بن العاص باغيا، ومروان بن الحكم باغيا، وعب

ولو سلمنا بتفسير معاوية ألصبح البغاة فريقا من كبار الصالحين ال نجرؤ على ذكر أسمائهم مقترنة بالبغى،

وإذا كنا قد توقفنا عند مقابلة اجتهاد أبي بكر باجتهاد مقابل، فإن بعضا من كبار الصالحين مثل واصل بن

وإمامهم، وعمرو بن عبيد، الزاهد الورع، الذي وصفه الخليفة المنصور بقوله الشهير عطاء، فقيه المعتزلة

، كانا أجرأ منا حين أطلقا لعقولهم العنان، وهما من هما، تدينا وفقها (غير عمرو بن عبيد. كلكم يطلب صيد)

قبول شهادة علي ال تجوز" وعلما، فأنكرا فعل الفريقين في أصحاب الجمل، وأصحاب صفين، وذكرا أنه

، وأوضح من قول واصل وعمرو، قول ( "كل نبات اخضرت له األرض)وطلحة والزبير على باقة بقل

لو كان جيش اإلمام على حق فقد كفر الزبير بقتاله، ولو كان جيش )عبد اهلل بن عباس لعبد اهلل بن الزبير

(.عائشة على حق فقد كفر الزبير بتخليه عنه

ها وال نمحصها، وإنما نذكرها متأملين، مقارنين عصرا بعصر، ومناخا بمناخ، وفكرا وهي أقوال ال نفحص

بفكر، وحسبنا أننا ال نتجاوز االجتهاد في تفسير الوقائع، بينما اجتهد عمر بن الخطاب فيما هو أجـل وأعظم،

ص، ولم يكن اجتهاده قاصرا مخالفا ما نعرفه ونلتزم به من أنه ال اجتهاد في النص، أو ال اجتهاد مع وجود ن

على التفسير أو التعديل، بل امتد إلى التعطيل والمخالفة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة اجتهاده، ولعلنا ال

نعرف نظيرا لعمر كرجل دين ورجل دولة على مدى التاريخ اإلسالمي كله، فهو القاسي على نفسه في

نها أنه على حق، وهو الزاهد في الدنيا زهدا لم يعرفه حاكم قبله الحق، ومن هنا قبلت الرعية قسوته، ثقة م

أو بعده ومن هنا قبل الجميع أن يحاسبهم، وأن يتحرى عن كسبهم، وأن يأخذ منهم ما يفيض عن حاجتهم،

وأن يعنف عليهم أشد العنف، إن رأي فيهم أهون الميل للهوى، أو الهوى للميل، وهو الذي يخطئ فيتعلم من

.وال تأخذه العزة باإلثمالخطأ

فها هو يولى عمار بن ياسر على الكوفة، ثم ال يلبث أن يتبين أن صالح الدين ال يعنى بالضرورة صالح

الدنيا، وأن للحكم ميدانه وللسياسة فرسانها، وليس بالضرورة أن يكونوا رجال الدين وفرسانه، فيعزل عمار،

سفيان ومعاوية بن أبي سفيان، ويرفض أن يولى أباذر معلنا ويولى أمثال المغيرة بن شعبة ويزيد بن أبي

أمامه أن به ضعفا، وأن الضعيف ال يولى مهما ارتفع في سلم العقيدة درجات، فهذه ساحة وتلك ساحة، إن

فلكل ساحة رجالها، ولكل –وغالبا ما تفترقان –فهو الكمال، وإن افترقتا –ونادرا ما تجتمعان –اجتمعتا

ن فرسانه، فرجال السياسة أجدر بالحكم، ورجال الدين أحفظ للعقيدة، غير أن أعظم ما تركه عمر لنا، ميدا

هو ذاته أكثر ما تجنبه الالحقون، وما ارتعدوا عند ذكره، ناهيك عن اإلقدام عليه، ونقصد به االجتهاد، ذلك

مع وجود النص –كما ذكرنا -الذي بدأنا حديث عمر بذكره وما تميز عمر فيه عن الجميع، حين اجتهد

القرآني، وبالمخالفة له، وقدم في تبرير ذلك حجة رائعة، ما أجدر المنغلقين في زماننا أن يقفوا أمامها بالتأمل

طويال، وما أجدرنا بأن نذكرها لهم تفصيال، عسى أن تتسع لها قلوبهم، ويتعلموا منها أن العقل قد يسبق

ن يسبق التكفير، ولعلنا نسائلهم مداعبين قبل أن نعرض عليهم ما نعرض، ما النقل، وأن التفكير ال بد وأ

حكمكم إذا ذكرنا لكم دون تخصيص أو تفصيل أن حاكما مسلما، لدولة مسلمة، قد أفتى بمخالفة نص قرآني

قد مع علمه به، وطبق قاعدة مختلفة معه ومخالفة له، وأفتى بجواز مخالفة النص ذاكرا أن واقع الحياة

تجاوزه، وأن المنطق لم يعد يستقيم معه، ولعلنا متصورون، بل ومتأكدون من اإلجابة، ولعلنا أيضا هاتفون

بهم حنانيكم، تمهلوا قليال، وتحسبوا كثيرا، فنحن نتحدث عن عمر بن الخطاب، وهاكم النموذج كما يسرده

.عالم جليل، في كتاب من أهم وأرقى ما كتب في السنوات األخيرة

وأما القاعدة التي نتحدث عنها فهي ( االجتهاد)أما العالم فهو الدكتور عبد المنعم النمر وأما الكتاب فعنوانه

:خاصة بسهم المؤلفة قلوبهم وهاكم ما كتبه الدكتور النمر

إنما " سهم المؤلفة قلوبهم وهو سهم قد نص عليه القرآن ما كتبه القرآن الكريم في آية توزيع الزكاة )

06/ التوبة " صدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ال

أو ليسوا على إسالم صحيح صادق بل –وهم كفار –وكان الرسول صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم

فيكفوا عن المسلمين شرهم، وليكسب –وطالما استعبد اإلنسان إحسان –متأرجحين، ليتألف بالعطاء قلوبهم

أعطاني رسول : " و لسانهم، وربما حبهم وإسالمهم، يروى سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قالودهم أ

".اهلل وإنه ألبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى أنه ألحب الخلق إلى

وسار أبو بكر رضى اهلل عنه في خالفته على ما سار عليه الرسول، حتى جاءه عيينة بن حصن، واألقرع

يا خليفة رسول اهلل إن عندنا أرضا سبخه ليس فيها كأل، وال منفعة، فإن رأيت أن : فسأال أبا بكر بن حابس،

تعطيناها؟ فأقطعهما أبو بكر إياها، على أنهما من المؤلفة قلوبهم، وكتب لهما كتابا بذلك، وأشهد عليه، ولم

فتذمرا وقاال مقالة سيئة، .. لكتابةيكن عمر حاضرا، فذهب إلى عمر ليشهد، فعارض عمر ذلك بشدة، ومحا ا

اذهبا فاجهدا جهدكم . إن رسول اهلل كان يتألفكما، واإلسالم يومئذ قليل، وإن اهلل قد أغنى اإلسالم: " قال لهما

".ال يرعى اهلل عليكما إن رعيتما

اء على اجتهاد والشاهد هنا، أن عمر أوقف حكما كان مستقرا في أيام الرسول، وجزء من خالفة أبي بكر، بن

له، في سبب إعطاء هؤالء حيث اعتبر أن السبب اآلن غير قائم، فال داعي لإلعطاء، والحكم يدور مع علته

وجودا وعدما، كما عرفنا فعمر رضى اهلل عنه، لم يقف جامدا عند حدود النص وظاهره وال حدود الفعل،

كم، على ضوء ظروف اإلسالم، حين صار قويا بل غاص إلى سببه وعلته، وحكم اجتهادا منه في فهم الح

..في غير حاجة إلى تأليف قلوب هؤالء

هل يجوز : كالم منطقي، وواضح، وصريح، يترتب عليه سؤال منطقي، وواضح، وصريح أيضا، مضمونه

أو لنا أن نتأسى بعمر فنعطل نصا، أو نجتهد مع وجوده، ويصل بنا االجتهاد إلى مخالفته، إذا انعدمت علته

تغيرت أسبابه؟

سؤال صعب، وإجابته خطيرة، وتداعيات إجابته أخطر، ليس على اإلسالم، بل على قلوب عليها أقفالها،

وعقول تعرف الضبة وتنكر المفتاح، غير أنا نلمح في أذهانهم طوق نجاة، قد يتشبثون به، وهو قولهم بأن

أن ينصرف ذلك إلى قواعد الدين وتعاليمه ذلك قد يجوز، إن تشابهت الحالة أو تماثلت مع ما سبق دون

الواضحة، مثل الحدود الثابتة بيقين في نصوص القرآن، ولعلنا بهذا القول نتفاءل كثيرا، ونتوقع منهم ما ال

نعرفه عنهم قياسا على تجربة سابقة لنا معهم، لكن ما ضرنا إن تفاءلنا، وما خسراننا إن أحسنا الظن، وما

منهم طوق النجاة، وأن نحيلهم في ردنا عليهم إلى مثال آخر الجتهاد عمر، عطل فيه حدا أجدرنا بأن نسحب

من الحدود الثابتة، وهو حد السرقة، إذا كان السارق محتاجا، ثم أوقف تنفيذه في عام المجاعة، وجدير بنا

فتوا بما يخالف قبل عرض هذا االجتهاد، أن نرد على بعض من ادعوا التفقه، وأزعجهم اجتهاد عمر، فأ

.الحقيقة، ظنا منهم أن أحدا ال يقرأ، أو أن الغاية تبرر الوسيلة

ومثال ذلك ما ذكره األستاذ الحمزة دعبس في حواره مع وزير مغربي، وهو حوار منشور في جريدة النور،

تطبيق التي يرأس األستاذ الحمزة تحريرها، حين سأل الحمزة الوزير، محاوال إحراجه، عن سبب عدم

الحدود الشرعية في المغرب، فكان رد الوزير أن تعطيل الحد اجتهاد، وأن لذلك سابقة تتمثل في تعطيل

إن عمر لم " عمر لحد السرقة في عام المجاعة، فرد عليه األستاذ الحمزة على الفور، بلغة الواثق من علمه،

لحقيقة أن الواقعة التي عطل فيها عمر ، وا"يطبق حد السرقة، ألن المبلغ المسروق كان أقل من النصاب

لإلمام مالك، كانت تتعلق بسرقة ناقة، وهي ما يفوق النصاب كثيرا، بل " الموطأ " الحد، والتي وردت في

إن سرقت فاسرق جمال، داللة على ضخامة حجم : ما يتناوله البسطاء في أحاديثهم عندما يتندرون فيقولون

.السرقة وجسامته

ني ما يتردد كثيرا على ألسنة بعض الفقهاء، وفي مقاالت بعض الكتاب ممن يسمون أنفسهم والمثال الثا

باإلسالميين من أن عمر لم يعطل الحد، بل أقام شروطه، ألن من هذه الشروط توفير الحد األدنى للمعيشة

عمر وقت أن والمعاش، وردنا على ذلك يسير، ورأينا فيه أنه مغالطة واضحة، ألن جميع ما توافر أمام

:أجتهد، لم يكن يزيد عن أمرين

.نص قرآني صريح واضح قاطع بقطع اليد في السرقة دون ذكر ألية شروط: أولهما*

سنة قولية وفعلية نقلتها لنا كتب األحاديث الصحاح وراجعناها جميعا فلم نجد إال اختالفا حول : وثانيهما*

ق، فتقطع اليد في مقابله، ولعلنا نضيف إلى علمهم تصحيحا، تحديد النصاب أي الحد األدنى لقيمة ما يسر

وإلى معلوماتهم تصحيفا، فنذكر لهم أن ما اختلط في أذهانهم، هو الشروط التي ذكرها الفقهاء بعد عمر

بحوالي قرن أو قرنين، وهي شروط عديدة تمثل اجتهادا منهم لمسايرة ما واجهوه من ظروف الحياة وهي

الشريعة وهي ثابتة، وكل ذلك أتى بعد عمر بكثير ولم يكن عمر في اجتهاده مقتفيا أثر متغيرة، بنصوص

الشافعي أو أبى حنيفة، وإنما كان العكس هو الصحيح، وكان اجتهاد عمر في هذه الواقعة هو الذي فتح باب

ور النمر في كتابه االجتهاد لهم، وهو الذي قنن لهم شرطا فأضافوا شروطا، ولنقرأ معا ما أورده الدكت

:بشأن هذا االجتهاد من عمر( االجتهاد)

وهذا اجتهادا جديد في إقامة الحد، اجتهد عمر في أال يقيمه بعد ثبوت السرقة : عدم إقامة الحد على السارق)

.ووجوب الحد عليهم، في الحضر ال في السفر، وال في الغزو.. على السارقين

ا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها، فأمر فقد روى مالك في الموطأ، أن رقيق

عمر بقطع أيديهم، ثم أوقف القطع، وفكر في أن يعرف السبب الذي من أجله سرق هؤالء فلعلهم جياع،

وجاء حاطب فقال له عمر، إنكم تستعملونهم، وتجيعونهم واهلل ألغرمنك غرامة توجعك، وفرض عليه

..السارقين من القطع لحاجتهم ضعف ثمنها، وأعفى

ولم يقف عمر بهذا عند ظاهر النص جامدا، بل غاص إلى ما وراءه، ووجد أنه ال يقام حين يكون السارق

لوال أنكم تستعملونهم و تجيعونهم، حتى لو وجدوا ما حرم : " في حاجة تلجئه إلى السرقة، كما قال لحاطب

".اهلل ألكلوه، لقطعتهم

أساسا لعدم تطبيق الحد على المحتاجين الذين تحدث عنهم، وهي وجهة نظر جديدة في وعمر بهذا وضع

:تطبيق اآلية

.. " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا، نكاال من اهلل"

33/ المائدة

–هره راعى فيها عمر علة القطع وظروفه، ودار مع العلة، وإن أدى ذلك إلى تخصيص النص أو ترك ظا

كما قال المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى، وهذه النظرة هي التي حملته على إيقاف حد السرقة أيضا

عام المجاعة، كما حملته على إيقاف الحدود في السفر مثل ما فعل حذيفة أيضا فأوقف الحد على شارب

".تحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطعمون فيكم؟ : " الخمر، وقال

أصدر عمر أمره إلى قواده أال يجلدوا أحدا حتى يطلعوا من الدرب راجعين، وكره أن تحمل المحدود وقد

حمية الشيطان على اللحوق بالكفار، وهو لم يوقف الحد وإنما أجله لظروف، حتى تزول هذه الظروف،

في أيام الرسول وأبي وفيها ظاهرة مخالفة لما كان.. وهذه كلها اجتهادات ألحكام جديدة، لم تكن قبل ذلك

(.بكر

وهكذا يتضح لنا أن عمر قد اجتهد فألغى سهم المؤلفة قلوبهم مخالفة للنص القرآني، وأوقف حد السرقة على

المحتاج، ثم عطله في عام المجاعة، وعطل التعزير بالجلد في شرب الخمر في الحروب، ونضيف إلى ذلك

ع األرض الخصبة على الفاتحين، وقتل الجماعة بالواحد مخالفا أنه خالف السنة في تقسيم الغنائم فلم يوز

قاعدة المساواة في القصاص، وال نملك ونحن نستعرض ما فعل، في ضوء المالبسات المحيطة بكل حادثة،

:إال أن نكتشف حقيقتين هامتين

.أوالهما أنه استخدم عقله في التحليل والتعليل، ولم يقف عند ظاهر النص

نه طبق روح اإلسالم وجوهره مدركا أن العدل غاية النص، وأن مخالفة النص من أجل العدل، وثانيهما أ

أصح في ميزان اإلسالم الصحيح من مجافاة العدل بالتزام النص، وهذه الروح العظيمة في التطبيق، تخالف

قفهم أمام ظاهر أشد المخالفة روح القسوة فيمن نراهم ونسمع عنهم، وتتـناقض مع منهجهم المتزمت، وتو

النص ال جوهره، ونكاد نجزم أنهم لو عاشوا في زمن عمر، التهموه بالمخالفة لمعلوم من الدين بالضرورة،

ولقاعدة شرعية ال لبس فيها وال غموض، ولحد من حدود اهلل ال شبهة في وجوب إقامته ولرفعوا عقيرتهم

فال وربك ال )، (م بما أنزل اهلل فأولئك هم الكافرونومن لم يحك)في مواجهته باآليات التي ال يملون تكرارها

، دون توقف أمام أسباب التنزيل، أو حكمة النص أو العقوبة، ولعلهم (يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم

يدركون أن التأسي بعمر وارد، وأن الباب الذي فتحه باجتهاده يتسع لكثير مما نراه ونقبله، ويرونه

:ا بأن نوجه إليهم سؤاال محددا وواضحافينكرونه، ويسمح لن

هل تعطيل إقامة الحد جائز، وهل مخالفة النص القرآني جائزة، وهل مخالفة السنة الثابتة، قولية كانت أم

فعلية جائزة؟

:ولعلهم أمام ثالث إجابات ال رابع لها

.أن الحكم بالجواز على إطالقه ال يجوز ونحن نوافقهم على ذلك: أولها -

.أن الحكم بإنكار الجواز على إطالقه ال يجوز و نحن نسلم معهم بذلك، وحجتنا عليه اجتهاد عمر: وثانيها -

أن الحكم بالجواز جائز في بعض الحاالت، وللضرورة، وألسباب منطقية وواضحة، تتسق مع : وثالثها -

..روح النص وعلته

واجتهاد واجتهاد، دون رمى لقفاز التكفير وفي هذا مساحة واسعة لنقاش طويل، وأخذ ورد، وحجة وحجة،

في الوجوه، ودون ادعاء باطل بأنهم المسلمون، وأننا الكافرون الظالمون الفاسقون، وأن ما في مخيلتهم

وحدهم هو اإلسالم، وأن ما في حياتنا كله هو الجاهلية بعينها، غاية ما في األمر أنها جاهلية معاصرة إلى

ونراه باطال، ويرونه علما بالفقه ونراه جهال بالفقه وبالتاريخ، ويرونه إيمانا ونراه غير ذلك مما يرونه حقا

.تعصبا مقيتا

ولعلنا ال نتجاوز سيرة عمر، دون أن نتوقف أمام قرار خطير وجليل، ربما مر على البعض دون أن يعيروه

وهو الفتنة الكبرى التي حدثت في عهد عثمان، التفاتا، بينما هو في رأينا مفتاح لتفسير ما بدأنا به الحديث،

.وانتهت بمصرعه، واستمرت طوال عهد علي وانتهت بمصرعه أيضا

لقد ألزم عمر كبار الصحابة بالبقاء في المدينة، وحظر عليهم مغادرتها إال بإذنه، وفسر ذلك لهم في رفق

نه خشى أن يفتتن الناس بهم، وأن يفتتنوا بأنه يحب أن يستأنس بهم، ويهتدي بمشورتهم، بينما حقيقة األمر أ

هم أنفسهم بالناس، وبما يفتن الناس، وأجرى عليهم أرزاقا محددة ومحدودة، ألزمهم بها، وألزم نفسه بها

قبلهم، فقبلوها منه، مثلما قبلوا مجمل سيرته، التي ال تأتي إال منه، ولعلهم ضاقوا بذلك أشد الضيق، وكرهوه

النهاية بشر يكرهون أن يمنعوا ما هو متاح لآلخرين، لكن ضيقهم من عمر، كان غاية الكره، فهم في

يصطدم بسيرة عمر مع نفسه، ومع أهله وخاصته، فيستحيل الضيق رضا، والتبرم صمتا، والكراهية صبرا

.جميال

دليلنا على ذلك أن ولعلنا في تخيلنا للكراهية أو التبرم أو الضيق لم نتجاوز الحقيقة، ولم نحلق في الخيال،

أول ما فعله عثمان غداة واليته، أن أطلق الصحابة يذهبون حيث شاءوا وزاد على ذلك بأن أجزل لهم

العطايا، وذلك أمر يتفق مع طبيعة عثمان وما جبل عليه من لين ورقة وكرم وتسامح، ولم تكن عطايا عثمان

.ة مائة ألفهينة أو محدودة، فقد أعطى الزبير ستمائة ألف وأعطى طلح

ولعله كان يتألف قلوبهم، لعلمه أن اجتهاداته قد تختلف مع اجتهاداتهم، وأنه مقدم على أمور لن تكون منهم

محل قبول، ومن صالحه أن يذهبوا في اآلفاق، وأن يكون قبولهم لعطاياه مانعا لهم من الثورة أو حتى

اقطع القطائع الكثيرة في األمصار لبنى أمية، الغضب، حين يعلمون أنه وهب ابنه الحارث مثلها، أو أنه

غير أنهم لم يأبهوا لشيء من هذا في أول األمر، فقد خرجوا إلى األمصار، وإذا بالدنيا تقبل عليهم إقباال لم

.يخطر لهم على بال أو خيال، وأقبلوا هم أيضا على الدنيا

و بقدر محدود، أما كيف أقبلت هذه، وكيف أدبرت وحين تقبل الدنيا دون حدود، فالبد أن تـدبـر العقيدة ول

:تلك، فتعال معي وتأمل، وتدبر معي

ثروات خمسة من كبار الصحابة أسماؤهم لوامع بل إن شئت الدقة أسماؤهم اللوامع، فهم جميعا مبشرون

عفان، بالجنة وهم من الستة الذين حصر فيهم عمر الخالفة، وأحدهم هو الخليفة المختار، وهم عثمان بن

والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد اهلل وعبد الرحمن بن عوف، ننقلها إليك من كتاب

(.الطبقات الكبرى البن سعد)موثوق به هو

:يقول ابن سعد بسنده

ف درهم و خمسمائة أل( األلف ألف هي المليون)كان لعثمان ابن عفان عند خازنه يوم قتل ثالثون ألف ألف )

فانتهبت وذهبت، وترك ألف ( الدرهم عملة فارس والدينار عملة الروم)درهم وخمسون ومائة ألف دينار

(.بعير بالربذة وترك صدقات كان تصدق بها ببر أديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتى ألف دينار

بمصر خطط وكان للزبير . كانت قيمة ما ترك الزبير واحد وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف) -

(وباإلسكندرية خطط وبالكوفة خطط وبالبصرة دور وكانت له غالت تقدم عليه من أعراض المدينة

مات أبي رحمه اهلل في قصره بالعتيق على عشرة أميال من : عن عائشة بنت سعد ابن أبي وقاص) -

(المدينة، وترك يوم مات مائتى ألف وخمسين ألف درهم

عبيد اهلل من العقار واألموال وما ترك من الناض ثالثين ألف درهم، ترك كانت قيمة ما ترك طلحة بن) -

(من العين ألفى ألف ومائتى ألف دينار، والباقي عروض

ترك عبد الرحمن بن عوف ألف بعير وثالثة آالف شاة بالبقيع ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع ) -

بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه وترك أربع بالجرف على عشرين ناضحا، وكان فيما ترك ذهب قطع

( نسوة فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين ألفا

و قد ذكر المسعودى تقديرات مقاربة لما سبق من ثروات مع اختالف في التفاصيل، واستند طه حسين في

ة وخمسين مليونا وأن كتابه الفتنة الكبرى لتقديرات ابن سعد، وذكر ابن كثير أن ثروة الزبير قد بلغت سبع

.أموال طلحة بلغت ألف درهم كل يوم

ولعل القارئ قد تململ كثيرا، وهو يستعرض ضخامة ما تركه كبار الصحابة من ثروات، ولعله انزعج كما

انزعجنا لحديث الماليين ولعله أيضا يتلمس مهربا بتصور أن الدراهم والدنانير لم تكن ذات قيمة كبيرة في

.أستأذنه أن يراجع نفسه عصرها، لكنى

فابن عوف توفى بعد عمر بن الخطاب بثمانى سنوات، والزبير وطلحة توفيا بعد عمر بثالث عشرة سنة،

في تلك الفترة القصيرة، أن يهبط بقيمة النقد إلى النصف ( بلغة عصرنا الحديث)وأقصى ما يفعله التضخم

:مثال، ويحكى المسعودى عن عمر أنه

لقد أسرفنا في نفقتنا في سفرنا : ذهابه ومجيئه إلى المدينة ستة عشر دينارا فقال لولده عبد اهللحج فانفق في )

، وإذا كانت الستة عشر دينارا قد كفت عمرا وولده، أو كفت عمرا وحده، شهرا كامال، فلنا أن نتخيل ما (هذا

(.بالفؤوس)جال عن قطعة تفعله عشرات الماليين، وما يملكه صاحب الذهب الذي يقصر جهد الر

ولنا أن نسوق مثاال أوضح من المثال السابق، عن سادس الستة الذين رشحهم عمر، ونقصد به عليا، الذي

توفى بعد طلحة والزبير بأربعة أعوام ونصف، وبعد ابن عوف بحوالي عشر أعوام، وهاكم ما تركه في

:رواية المسعودى

مائة درهم بقيت من عطائه، أرد أن يشتري بها خادما ألهله، وقال لم يترك صفراء وال بيضاء، إال سبع)

(.ترك ألهله مائتين وخمسين درهما ومصحفه وسيفه: بعضهم

نحن هنا أمام نموذج ونماذج، ومثال وأمثلة، وتركة وتركات، وأمام مؤشر خطير لما حدث للمسلمين، وأمام

ان معا إال بشق األنفس، وجمع المال على هذا النحو ال نذير خطير لما سيحدث لهم، فالدين والدنيا ال يجتمع

يستقيم مع نقاء اإليمان وصفاء السريرة إال بجهد مجهد وجهيد، وقول الرسول عن ابن عوف أنه يدخل الجنة

حبوا يطرق األذهان في عنف، فغنى عبد الرحمن وثروته يثقالن خطوه إلى الجنة، وال لوم وال تثريب على

ى كما يشاء، وأدى حق اهلل في ماله كما يحب، لكن ميزان كبار الصحابة ليس كميزان غيرهم، المسلم إن أثر

فهم أثقل من غيرهم بالزهد، وأجدر من غيرهم بالخصاصة، وقد عهدناهم حين هاجروا من مكة قبل ذلك

األغنياء، بسنوات ال يملكون غير مالبسهم، ويبيتون على الطوى سجدا خاشعين، وكانوا في الميزان أغنى

لكن الزمن قد دار إلى غير عودة، وما ضر المقبل على الثروة أن يقبل على الحكم، فهما وجهان لعملة

واحدة هي الدنيا المقبلة، وسوف يأتي على خليفة بعد عثمان، وسوف يكون الخليفة الحق في الزمان الخطأ،

أنه كانت هناك جذوة من العقيدة ما زالت وسوف يحدث له ما حدث، ألنه البد أن يحدث، غاية ما في األمر

أعصى و يطاع معاوية؟ : مشتعلة، أبقت حكمه قرابة الخمس سنوات، ولم يكن له أن يتساءل مستنكرا

نعم يا أبا الحسن، تعصى ألنك على دين، ويطاع معاوية ألنه على دنيا، : فالتساؤل على مرارته مجاب عليه

وم أقرب إلى معاوية منك، ولم يكن لهم أن يصبروا عليك وأنت تحاول فكما تكونوا يول عليكم، وقد كان الق

إدارة العجلة إلى الخلف، إلى الزمن السعيد والصحيح، فليس لها أن تدور إال حيث تريد لها الرعية أن تدور،

منها وإذا كان أصحابك قد أقبلوا على الدنيا هذا اإلقبال، أتنكر أنت على الرعية أن تقبل هي األخرى آخذة

بنصيب، ساعية إلى من ييسر لها ما ترضاه، ويتألف قلوبها بما أنست إليه، وتألفت معه، وأقبلت عليه،

.وأدبرت أنت عنه

هون عليك يا أبا الحسن، فسوف يأتي بعدك بسبعين عاما من ال يستوعب درسك فيحاول ما حاولت، ويقضى

تمر أكثر من سنتين وثالثة أشهر، وسوف بأسرع مما قضيت، سوف يأتي عمر بن عبد العزيز، ولن يس

يموت دون األربعين، مسموما في أرجح األقوال مخليا مكانه ليزيد بن عبد الملك، شاعر المغاني والقيان،

.عاشق سالمة وجبابة، وأول شهداء العشق والغرام في تاريخ الخلفاء، كما سنروى للقارئ بعد قليل

قرن ونصف، خليفة عباسي اسمه المهتدى باهلل يحاول أن يحتذي وسوف يأتي بعد عمر بن عبد العزيز ب

حذوه فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويزهد في الدنيا، ويقرب العلماء، ويرفع من منازل الفقهاء،

فـثـقلت : )ويتهجد في الليل، ويطيل الصالة، ويلبس جبة من شعر وسوف يكون مصيره كما ذكر المسعودى

ة والخاصة بحمله إياهم على الطريقة الواضحة فاستطالوا خالفته وسئموا أيامه وعملوا وطأته على العام

أريد : الحيلة حتى قتلوه، ولما قبضوا عليه قالوا له أتريد أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها؟ فقال

ن مع قوم قد زهدوا في إن الرسول كا: أن أحملهم على سيرة الرسول وأهل بيته والخلفاء الراشدين، فقيل له

الدنيا ورغبوا في اآلخرة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، وأنت إنما رجالك تركي وخزرى

ومغربي وغير ذلك من أنواع األعاجم ال يعلمون ما يجب عليهم في أمر أخرتهم وإنما غرضهم ما استعجلوه

(.من هذه الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة؟

قتل المهتدى بعد أقل من أحد عشر شهرا من خالفته، واختلف في قتله، فذكر البعض أنه قتل بالخناجر، وقد

ومنهم من رأى أنه عصرت مذاكيره حتى مات، ومنه من رأى أنه )وشرب القتلة من دمه حتى رووا منه،

، ال (و الوسائد حتى ماتجعل بين لوحين عظيمين وشد بالحبال إلى أن مات، وقتل خنقا؟ كبس عليه بالبسط

تحزن يا أبا الحسن وال تغضب، فزمانك ال شك أعظم من زمن من يليك، وحسبك أن عهدك كان فيصال أو

معبرا إلى زمان جديد، ال ترتبط فيه الخالفة باإلسالم إال باالسم، وال نتلمس فيها هذه الصلة بين اإلسالم

عهد عمر بن عبد العزيز، وأحد عشر شهرا في عهد والخالفة، إال كالبرق الخاطف، يومض عامين في

المهتدى وخال ذلك دنيا وسلطان، وملك وطغيان، وأفانين من الخروج على العقيدة لن تخطر لك على بال،

وربما لم تخطر للقارئ على بال ما نقلوه إليه كان ابتسارا للحقيقة، وإهدارا للحقائق، وانتقاصا من الحق،

يذكر يا أبا الحسن، فدعنا نقص على القراء ما راعك وما سيروعهم، وما أفزعك وما وإذا كان الشيء

سيفزعهم، وسوف ننقله إليهم موثقا بالرسائل، تلك التي تداولتها أنت وابن عمك وأقرب الناس إليك، عبد اهلل

صرة، أعظم بن عباس، حبر األمة وبحرها، وأحد أكثر من نقلت عنهم أحاديث الرسول، وواليك على الب

األمصار وأجلها خطرا، ولعلك يا أبا الحسن كنت تتوقع أن تسمع عن عبد اهلل بن عباس أي شئ إال ما

عاملك و )رسالة ينبئك فيها أن ( أبو األسود الدؤلى)سمعت، حين أتتك من صاحب بيت المال في البصرة

(.ابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك

دق، ولعله لم يكن أمامك إال أن ترسل لعبد اهلل بن عباس مستفسرا، متمنيا أم ولعلك يا أبا الحسن لم تص

أما بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن : " يحصحص الحق فيسفر عن بياض صفحته، وهو خطابك إليه مختصرا

بلغني أنك جردت : كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وأخربت أمانتك، وعصيت إمامك، وخنت المسلمين

".لت ما تحت يديك، فارفع إلى حسابك واعلم أن حساب اهلل أشد من حساب الناس األرض وأك

أما بعد، فإن الذي بلغك باطل، وأنا لما تحت يدي أضبط وأحفظ، فال تصدق على " ويأتيك يا أبا الحسن

".األظناء، رحمك اهلل، والسالم

من جوع، وال يسمن من شبع، فعلي قد رد كأنه إحدى رسائل التلكس في أيامنا الحاضرة، وهو رد ال يغنى

طلب حساب بيت المال، فلم يظفر من ابن عباس إال بنفي التهمة وبالسالم، وما عليه إال أن يعاود الكرة،

:موضحا ما يطلبه، مؤكدا عليه، محاوال استثارة النخوة الدينية لديه، ولنقرأ خطاب علي

أخذت من الجزية، ومن أين أخذته، وفيما وضعت ما أنفقت أما بعد، فإنه ال يسعني تركك حتى تعلمني ما "

منه، فاتق اهلل فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه، فإن المتاع بما أنت رازئ منه قليل، وتبعة ذلك شديدة،

".والسالم

أن لم يعد األمر اتهاما ينفيه ابن عباس، بل طلبا واضحا ومحددا، ومطلوب من ابن عباس أن يجيبه، وهو

.يوضح في جانب منه موارده من الجزية، وفي الجانب اآلخر أوجه اإلنفاق( كشف حساب)يكتب له

والحقيقة أن ابن عباس قد أجاب، وهو في إجابته لم يذكر شيئا عن موارده وإنفاقه، وإنما تقدم بالخصومة

المال، وهو يتهم عليا بسفك بينه وبين علي خطوة واسعة، ورد عليه اتهاما باتهام، فعلي يتهمه باغتصاب

أعظم ( هكذا قال وهكذا أفتى)دماء األمة من أجل الملك واإلمارة، وهكذا جريمة بجريمة، بل أن جريمة علي

أما بعد، فقد )عند اهلل من جريمته التي لم ينفيها أو يعتذر عنها، ولنقرأ معا رسالة عبد اهلل بن عباس إلى علي

لغك أني رزأته أهل هذه البالد، واهلل ألن ألقى اهلل بما في بطن هذه األرض فهمت تعظميك على مرزئة ما ب

من عقيانها ولجينها وبطالع ما على ظهرها، أحب إلى من أن ألقاه وقد سفكت دماء األمة ألنال بذلك الملك

".فابعث إلى عملك من أحببت . واإلمارة

:بكف، مرددا استقالة أسبابها غير مقنعة، ضرب علي عند قراءتها كفا

ولو رمى ابن عباس باستقالته تلك واكتفى، آلخذناه على ما " وابن عباس لم يشاركنا في سفك هذه الدماء؟ "

جاء فيها، ولبررناها بغضبه من اتهام ظالم وجسيم، أطلق منه نوازع الغضب وانفعاالت الثورة، فكتب ما

لكنه فعل بعد كتابة هذا الخطاب ما لم يخطر كتب تحت وطأة الغيظ وفي ظل انفعال من يتهم وهو برئ،

لعلي على بال، وما ال يخطر للقارئ على بال، وما ال سبيل إلى نجاته من وزره أمام اهلل، وأمام علي،

..وأمامنا جميعا

لقد جمع ما تبقى من أموال في بيت المال، و قدره نحو ستة ماليين درهم، ودعا إليه من كان في البصرة من

من بنى هالل، وطلب إليهم أن يجيروه حتى يبلغ مأمنه ففعلوا، وحاول أهل البصرة مقاومتهم أخواله

وناوشوا بنى هالل قليال، ثم أقنعوا أنفسهم بترك المال عوضا عن سفك الدماء، ومضى ابن عباس بالمال،

ع على نفسه، واشترى ثالثة آمنا، محروسا، قريرا، هانئا، حتى بلغ البيت الحرام في مكة، فاستأمن به، وأوس

..جوار مولدات حور بثالثة آالف دينار

صدمة هائلة، ال لعلي فقط، بل لنا جميعا، نحن الذين عشنا عمرنا نقرأ عن فقه العباد له، وزهد العباد له،

ا بنا ، فإذ(يقصدون عبد اهلل بن عباس وعبد اهلل بن عمر وعبد اهلل بن جعفر بن أبي طالب)وورع العباد له،

نحارفهما، ونمسك ألسنتنا غصبا أمام أشهر العباد له، ونخشى أن نصف فعله بما يستحق فال ننجو من

األلسنة الحداد ومما هو أكثر، لكنا يجب أن ال نكون أرفق ببعض الصحابة من أنفسهم، وال أقل من أن

يأكل حراما ويشرب )بأنه نصفهم بما وصف بعضهم به بعضا، وحسبنا أن عليا أوجز رأيه في ابن عباس

:وليس لنا إال أن نقول مع علي( حراما

صدقت إن صدق ما قلت وحدث ما فعل، بل أننا نتساءل ومعنا كل الحق، هل االستيالء على أموال المسلمين

بالباطل حالل على مسلم لكونه عاصر الرسول أو الخلفاء أو الصحابة، حرام علينا ألننا جئنا في عصر بعد

ر، وعاصرنا زمانا غير الزمان؟، هي حرام عليهم بقدر ما هي حرام علينا، بل هي حرام عليهم أكثر، العص

ألنهم يعرفون من الدين أكثر، ومتفقهون فيه أكثر، وألنهم األئمة والمنارة، فإذا فسد األئمة فمن أين يأتي

الصالح؟، وإذا أظلمت المنارة فبمن نسترشد؟

لحديث، وللحديث بقية، أتذكر أن أحد أعضاء تنظيم الجهاد، ممن اغتالوا الرئيس ولعلي قبل أن أستطرد في ا

السادات في المنصة، كان مشهورا عنه أنه يكحل عينيه، وعندما سئل، قال تأسيا بابن عباس، ولعله لو قرأ

ر في مكة، ما قرأناه عنه ما تأسى به وما أكتحل مثله، واقرأوا معي رسالة علي البن عباس، بعد أن استق

هانئا بين جواريه، قانعا بأموال المسلمين

أما بعد، فأني كنت أشركتك في أمانتي، ولم يكن في أهل بيتي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي )

فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو عليه قد حرب، وأمانة الناس . ومؤازرتي وأداء األمانة إلي

ة قد فتنت، قلبت له ظهر المجن، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذالن قد خربت، وهذه األم

الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فال ابن عمك آسيت، وال األمانة أديت، كأنك لم تكن هلل تريد بجهادك، أو كأنك

ن فيئهم، فلما لم تكن على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرتهم ع

أمكنتك الغرة أسرعت العدوة، وغلطت الوثبة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم

اختطاف الذئب األزل دامية المعزي الهزيلة وظالعها الكبير، فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر،

!ك تراثك عن أبيك وأمك، سبحان اهلل تحملها غير متأثم من أخذها، كأنك ال أبا لغيرك، إنما حزت ألهل

أفما تؤمن بالمعاد وال تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما؟ أو ما يعظم عليك

وعندك أنك تستثمن اإلماء وتنكح النساء بأموال اليتامى واألرامل والمجاهدين الذين أفاء اهلل عليهم البالد؟

م فإنك واهلل إال تفعل ذلك ثم أمكنني اهلل منك ألعذرن إلى اهلل فيك حتى آخذ الحق فاتق اهلل، وأد أموال القو

(.وأرده، وأقمع الظالم، وأنصف المظلوم، والسالم

خطاب يقطر دما، ولو استقبله ابن عباس بقلب فيه ذرة من إيمان لخشع وتاب، ورجع عن فعله وأناب، لكنه

ما بعد، بلغني كتابك تعظم على إصابة المال الذي أصبته من مال أ)يرد مستخفا في سطرين ال أكثر فيقول

(.البصرة، ولعمري إن حقي في بيت المال ألعظم مما أخذت منه والسالم

هذه المرة يأتي الرد سافرا، نعم أخذت، لكنه حقي، بل إن حقي فيه أكثر، أي حق؟ وبأي حق؟ وهل لعبد اهلل

مما لرجل من المسلمين؟ بن عباس في بيت مال المسلمين حق أكثر

هذا ما تساءل به علي في رده على هذا الخطاب، وهو رد بليغ وحزين ال أريد أن أشغل به القارئ فأزيده

آخر من ردود ابن عباس، حسم به النقاش، وأنهى به ( برقى)حزنا فوق حزن، لكني أنتقل به فجأة إلى رد

:سطوة الدنيا وسيفها، وسلطانها وزيفها، قائال البن عمه عليالجولة، وختم به حديث الدين والعقيدة، مهددا ب

."لئن لم تدعني من أساطيرك ألحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به "

وهكذا أصبحت الموعظة الحسنة أساطير لدى عبد اهلل بن عباس، وأصبحنا نحن في حيص بيص كما

.على ديننا من لم يؤتمن على دنيانا؟ يقولون، نضرب كفا بكف، ونتساءل في مرارة، هل نأتمن

أن أمانة الناس قد خربت، واألمة قد فتنت، وابن عمه ( كما يقول)ال بأس أن نترك عليا ألحزانه، وهو يرى

قد انقلب عليه، وفضل رغد العيش من مال المسلمين في مكة، على نضال العقيدة من أجل اإلسالم في

علي، وحتى نرى عبد اهلل بن عباس، ضيفا على معاوية في مقر الكوفة ولن يمر وقت طويل حتى يقتل

خالفته في دمشق، مستقبال بالتوقير والمالطفة والعطايا، غير أن العلة لم تكن فقط في نكوص رموز العقيدة

عن حمل أعبائها، بل كانت هناك علل أخرى قد تسللت إلى بنيان الدولة اإلسالمية الوليدة فأجهزت عليه

رك حديث العقيدة ورموزها إلى حديث الدنيا وسياستها، ونشير إلى أن أي حكم في التاريخ ال بد له وهنا نت

مهابة، وأن هيبة الحكم محصلة للتفاعل بين الحاكم والمحكوم، وهي في النهاية ضرورة ليس لصالح الحكم،

كر بحروب الردة قد حفظ هذه فهذا أمر آخر، بل لتوطيد دعائمه، واستمراره واستقراره، وال شك في أن أبا ب

الهيبة بل ورسخها في نفوس المحكومين، وال شك في أن عمر بعنفه وعدله معا قد وصل بهذه الهيبة إلى

.أقصى الدرجات

وال شك أيضا في أن عثمان قد هبط بها رويدا رويدا حتى تالشت أو كادت، فهو مرة يصدر قرارا خاطئا،

، ثم ال يلبث أن يعود عن اعتذاره إلى (حتى يبكي الجميع)بر لكي يعتذر ويبكي ثم ال يلبث أن يقف على المن

عنف ال يملك مقوماته، وهو في تأرجحه بين العنف واللين، وتراوحه بين القرار وعكسه، يفقد الحكم هيبته

ارة لدى الرعية شيئا فشيئا، حتى يصل األمر إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين، وإلى قذفه بالحج

وهو على المنبر حتى يغشى عليه، وإلى محاصرته ومنع المياه عنه، بل أن يرسل إليه األشترالنخعى خطابا

:يفتتحه بالعبارة التالية

"من مالك بن الحارث إلى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنة نبيه النابذ لحكم القرآن وراء ظهره "

عودة هذه الهيبة إال برجل دنيا وسياسة وحكم من شاكلة معاوية، رجل ولعلى أجزم بأنه لم يكن هناك سبيل ل

ال يتحرج أن يقتل حجر بن عدى، على إيمانه وعدله وزهده، حين يعبر حجر الخيط الرفيع بين معارضة

الحكم ومحاربته، وبين االعتراض على الحاكم، والثورة عليه، ألن القضية في نظره حكم أو ال حكم،

.سلطة، وهيبة أو ال هيبةوسلطة أو ال

طريق الدين، فحاور المنشقين، ( علي)من االنقسام، بينما سلك ( معاوية)ولعل هذا المنطق هو ما حفظ جيش

وكلما أتوا بحجة أتى بحجة، وإذا ذكروا آية أفحمهم بآية، وإذا استشهدوا بحديث رد عليهم بحديث، وكلما

لم يعد هناك بد من أن يرفع عليهم السيف و أن يرفعوا عليه طال النقاش زادت الفرقة واتسع االنقسام، و

السيف، و في النهاية صرعته سيوفهم، ألنه هكذا ينتهي التطرف بالمتحاورين معه، وهكذا يحسم الحوار

دائما، يحسمه األكثر تطرفا لصالحه، عادة يحسم معه أشياء كثيرة، منها مبدأ الحوار ذاته، ( الديني –الديني )

المحاور ذاتها، وإذا كنا نرى في أيامنا من المتطرفين عجبا، فألنهم رأوا منا عجبا، تحسسوا هيبة وحياة

، زادوا (الالدن)الدولة فلم يجدوا هيبة وال دولة، عجموا عود النظام في الهين من األمر فوجدوه مرنا مثل

عاجلوه بالجليل من األمر فعاجلهم بضبط فوجدوه قد ازداد لينا، تمادوا فإذا به ينثني معهم أينما انثنوا،

النفس، انتظروا اللوم من قيادات الفكر السياسي ورموز المعارضة فلم يجدوا إال من يشيد أو يستزيد، ومن

يصف مجرميهم بالشهداء، أو ينعت فأسديهم بالشرفاء، ولو طبقت عليهم الشريعة التي ينادون بها لعوملوا

لقطعت أيديهم وأرجلهم من خالف، ولصلبوا في ميادين القاهرة معاملة المفسدين في األرض، و

.واإلسكندرية

ما علينا ولنعد إلى صفحات التاريخ، فقد توقفنا عند عثمان وعلي وذكرنا أن الخالفة اإلسالمية قد انتهت

بد عالقتها باإلسالم بعدهما، ولم تكن لها باإلسالم صلة إال في ومضات خاطفة تمثلت في عهد عمر بن ع

العزيز أو المهتدى، ولعلها بدأت هذا المسار كما أشرنا في بداية عهد عثمان، وإذا كنا ننزع صفة اإلسالم

عن الخالفة فيما ذلك من عهود فإن لنا في ذلك حجة سوف نسردها في موقعها من السرد، والصحيح في

ول أنها قرشية إن شئنا الدقة في اللفظ رأينا أنها كانت خالفة عربية، إن جاز التعميم وهو جائز، واألدق أن نق

، بينما حكم اإلسالم ربع قرن أو أقل، (وهو دقيق، فقد حكمت قبيلة قريش المسلمين أكثر من تسعمائة سنة

فالخلفاء الراشدون قرشيون، واألمويون قرشيون والعباسيون قرشيون، وقد استمرت الدولة العباسية بصورة

هــ، 413بغداد حتى سقوك دولة المماليك في أيدي العثمانيين عام رسمية ثم بصورة شكلية بعد سقوط

وأكاد أجزم بان قبيلة قريش بذلك تمثل أطول أسرة حاكمة في تاريخ اإلنسانية كلها، بل إن التاريخ ال يحدثنا

عن أسرة واحدة حكمت نصف هذه الفترة، ولو كان األمر أمر رضا من المسلمين، أو اختيار منهم لهان

نا وما توقفنا عنده، لكننا نتوقف عنده طويال، ونتأمله كثيرا لكونه ارتبط بأعز ما نملك وهو العقيدة، علي

وتستر بأقدس رداء وهو الدين، واستند إلى أحاديث نبوية ننكرها على من ادعوها، ألنها ال تمت لروح

.اإلسالم بصلة

حكمهم قرابة سبعمائة وستة وثمانين عاما، وحسبك ذلك الحديث الذي استند إليه العباسيون حتى استمر

ومضمونه أن الخالفة إذا انتقلت إلى أيدي أوالد العباس، ظلت في أيديهم حتى يسلموها إلى المهدى أو

عيسى بن مريم، وهو حديث كاذب، ومختلقة كذوب، وأنا وأنت أيها القارئ ال نختلف اآلن على كذب

ك أنه ببساطة لم يتحقق، لكن هذه الحجة لم تكن متاحة ألجدادنا، وما الحديث وال تكذيب قائلة، حجتنا في ذل

كان لهم إال أن يخضعوا صاغرين للحديث، وإال اتهمهم فقهاء العصر، شأنهم شأن بعض الفقهاء الذين

يظهرون في كل عصر، بنقص في دينهم، والتواء في عقيدتهم، وحسبنا أن مراجع الحديث ومنها الصحيحان

الدرامى وأبو داود تجمع على حديث يأتي حديث لو اجتمع عليه أهل األرض لعارضناه، وابن حنبل و

فاإلسالم السمح، الذي أتى ليساوى بين العربي واألعجمي، ال يميز أسرة من األسر عن غيرها بدم أزرق،

ما كان سالم ، و(لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته)لمجرد أنها قريش، وها هو عمر يعلن قبيل وفاته

( الخزرجى)قرشيا، وما كان عمر بالذي يجهل حديثا له هذا القدر من األهمية، وها هو سعد بن عبادة

ينافس أبا بكر على الخالفة، ويرفض بيعته حتى وفاته، ولو علم سعد بالحديث ما نافس وال أنكر وال رفض

.وال أصر، لكنه هكذا كان األمر

، خوفا من (وما أكثرهم)والسفهاء منهم ( و ما أندرهم)خلفاء، الفضالء منهم وهكذا خضع أجدادنا لحكم ال

اتهامهم بالخروج على الطاعة، أو المخالفة للجماعة، ويا حسرة على إسالم عظيم أتي ليساوي بين الناس،

فأحاله البعض بالكذب، إلى دين يرسخ التفرقة العنصرية، ويرفع البعض فوق البعض بالنسب، ولعل

نادين بالخالفة في عصرنا الحديث، يدلوننا على سبيل نتحقق به من أنسابنا، فربما كنا قرشيين دون أن الم

.ندري، فنزايد في السياسة مع المزايدين، ونطمع في الحكم مع الطامعين ونكره المنطق مع الكارهين

:وأخيرا ونحن نتجاوز عهد الراشدين إلى غيرهم، يجدر بنا أن نستخلص نتيجتين

:النتيجة األولى

أن من يتصورون أنه من الممكن إعادة طبع نسخة كربونية من عصر الراشدين، في عصرنا الحديث، إنما

يركبون شططا من األمر، وقد يصلون بأنفسهم وبنا نتائج مؤسفة، فليس كل ما كان مقبوال في عهد الصحابة

وحتى في أفعال الرسول نفسه، هناك مساحة مقبوال وصحيحا في عصر غير العصر، ومع قوم غير القوم،

واسعة لتأسيه بعصره، ومعايشته لتقاليد قومه، كالزي والعالج، وهي مساحة لسنا مطالبين باألخذ بها أو

اعتبارها سنة واجبة اإلتباع والنفاذ، فالرسول لم يأت بزي جديد، وإنما ارتدى زي الجاهلية، وزي األعاجم

ليس الزي النبوي وارد اكسنة للتأسي والمتابعة، وما يقال عن الزي يقال عن عندما أهدي إليه، وعليه ف

الطب، ويقال عن كثير من المفاهيم التي سادت في عصرنا الحديث، وتقبلها الناس قبوال حسنا، وهي أقرب

الذي لو سالف الذكر، ( الكربوني)ما تكون إلى الروح العامة لإلسالم إذا ما فهمناها بمنطق مخالف للمنطق

..اتبعناه لوصل بنا نتائج أقل ما توصف به أنها مؤسفة، بل وربما جاز وصفها بما أكثر

..التعذيب.. ولنأخذ مثاال

لن يختلف اثنان على القول بأن التعذيب باإليذاء البدني أو النفسي للحصول على اعتراف أو قبل تنفيذ حكم

.ع جوهره في العدل والرحمةأو خالل تنفيذ حكم أمر ينكره الدين، ويتنافى م

هذا هو التفسير العصري، أي الذي يأخذ روح العصر فيطابقها على روح الدين وجوهره أو يفعل العكس

وهو في الحالتين مقنع ومقبول وصحيح، فماذا عن التفسير الكربوني؟

:إليكم واقعتين شهيرتين

فقال يا رسول )فدعا الرسول عليا الستشارته في حادثة اإلفك المعروفة، ، حين اتهم البعض عائشة: األولى

اهلل إن النساء لكثير وأنك لقادر على أن تستحلف وسل الجارية فإنها تصدقك فدعا رسول اهلل صلى اهلل عليه

فضربها ضربا شديدا وهو يقول اصدقي رسول اهلل فتقول واهلل ( علي)يسألها فالت فقام إليها ( بريرة)وسلم

..(ما أعلم إال خيرا

هنا إيذاء بدني من علي للجارية بقصد الحصول منها على اعتراف ولم ينكر الرسول شيئا مما فعله علي،

أن يعذب المتهم للحصول على اعترافه ويصبح ما ( السنة)هنا يصل بنا إلى أنه من ( الكربوني)والتفسير

وشرعيا، بل ومحمودا ألنه تأس يثار حول تعذيب أعضاء الجماعات اإلسالمية في السجون أمرا مشروعا،

..بالسلف الصالح

بينما وجهة النظر المقابلة، المتسعة األفق الملتصقة بروح العقيدة، تستـنكر التعذيب، وترى أن هذا حتى لو

كان أمرا مقبوال في عصر الرسول، ال ينسحب على غيره من العصور، وإذا كانت الحضارة قد أضافت

اسعا لحقوق اإلنسان، يرفض فيما يرفض أن يعذب متهم للحصول على اعتراف، فيما أضافت، مفهوما و

فإننا نقبل هذا المفهوم من منطلق إسالمي، وال نرفضه لمجرد التأسي بعصر أيا كان هذا العصر، لسببين

أولهما أننا في عصر غير العصر وثانيهما أن اإلسالم ال يتنافى مع روح العصر، أي : بسيطين واضحين

.ر، في كل ما هو إنساني وسمح وعادلعص

:الواقعة الثانية

دعا عبد اهلل بن جعفر بابن ملجم، )بعد وفاة اإلمام على بن أبي طالب بطعنات من عبد الرحمن بن ملجم

أي بمكحال " إنك يا ابن جعفر لتكحل عيني بملمول مض : " فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فجعل يقول

قطعنا يديك ورجليك، : انه أن يخرج ليقطع، فجزع من ذلك، فقل له ابن جعفرثم أمر بلس" حار محرق

إني ما جزعت من ذلك خوفا من الموت، لكني : وسملنا عينيك، فلم تجزع، فكيف تجزع من قطع لسانك، قال

د ، والرواية يذكرها ابن سع(ثم قطع لسانه، فمات. جزعت أن أكون حيا في الدنيا ساعة ال أذكر اهلل فيها

مضيفا إليها حرقة بعد موته ويذكرها ابن كثير دون ترجيح ويقتصر الطبري وابن األثير على الحرق بعد

.القتل

والرواية ال تعبر في رأينا عن روح اإلسالم أو تعاليمه، حتى لو اقتصرت على حرق الجثمان بعد القصاص

وفاته في رواية البن األثير عن المثلة قبل ( علي)فقد نهى الرسول عن المثلة ولو بالكلب العقور، ونهى

بقاتله، لكنها تعبر من وجهة نظرنا عن روح عصر، سادته القسوة، وتحجر القلب وكان مقبوال فيه أن يحدث

ما فعله عبد اهلل بن جعفر بابن ملجم، دون استنكار، بل ويكمل المشاهدون المشهد بحرق الجثمان، بينما

را من اإلحساس بعذاب اآلخرين، وصعوبة تقبل التمثيل بهم أو تعذيبهم، بل أضافت الحضارة إلى سلوكنا كثي

إنه من الصعب أن نتصور صمود مجموعة من المشاهدين لمثل ما فعله عبد اهلل بن جعفر، بكلب ضال أو

..بقط شارد

ولإلقتداء به، تبريرا لفعل عبد اهلل بن جعفر، ( الكربون)غير أن لكل حقيقة وجهين، وما أيسر أن يجد أنصار

بإلصاق تهمة اإلفساد في األرض بابن ملجم، والتأسي بالحسن والحسين، حيث لم يذكر عنهما أنهما أنكرا

ولعلنا نتساءل ونحن نتأمل صمود عبد الرحمن بن ملجم، وصبره . التمثيل بالجثمان بحرقه بعد القصاص

حتى ال تمر عليه لحظة ال يذكر )لسانه على قطع أطرافه وسمل عينيه بالحديد المحمى ثم جزعه عند قطع

هل هناك مثال أبلغ من هذا المثال، على ما يمكن أن يؤدي إليه التطرف عندما يتسلط على (.. فيها اهلل

الوجدان فال يميز المتطرف بين الكفر واإليمان، ويصل به األمر إلى قتل على ابن أبي طالب، والتلهي عن

.ع فقط عند قطع اللسان، حتى ال يحرم لحظة من ذكر الرحمن؟المثلة به بقراءة القرآن، والجز

..ال جديد إذن تحت الشمس، وقد ال نجد في زماننا نظيرا لعلي، لكننا نجد كثيرا من أمثال عبد الرحمن

..ونعود إلى هواة الكربون

وأن نترك في نفس أليس األجدر بهم، رحمة بنا، وباإلسالم، أن نلتزم بالقرآن، وبالسنة في شئون العبادة،

الوقت، مساحة من أذهاننا للتعرف على العصر وااللتقاء معه، وقبول ما يأتي به من قيم تتناسق مع جوهره،

وال تتناقض مع اإليمان والعقيدة، وأن نقبل ما نقبل، ونترك ما نترك، بقلب مؤمن وفكر مفتوح، فال نرفض

ديموقراطية ألنها بدعة، وال نرفض عصرنا على حقوق اإلنسان ألنها أتت من األعاجم، وال نرفض ال

إطالقه، وال نقبل عصر الراشدين على إطالقه، ونستخدم العقل في النقل، والكربون في طبع مستحدثات

الحضارة، تلك التي ال عالقة لها بالفكر أو العقيدة، وإنما عالقتها وطيدة بالتقدم، ذلك الذي أزعم أنه ليس

.بل هو اإلسالم ركنا من أركان اإلسالم،

:النتيجة الثانية

أن قواعد الدين ثابتة، وظروف الحياة متغيرة، وفي المقابلة بين الثابت والمتغير، ال بد وأن يحدث جزء من

المخالفة، ونقصد بالمخالفة أن يتغير الثابت أو يثبت المتغير، وألن تثبيت واقع الحياة المتغير مستحيل، فقد

ا بتغير الثوابت الدينية، وقد حدث هذا دائما ومنذ بدء الخالفة الراشدة وحتى انتهت، كان األمر ينتهي دائم

وتغيير الثوابت هو ما نسميه باالجتهاد، وقد اتفقنا على أنه ليس مطلقا، لكنه قائم ومتاح، وما أوردناه من

عقيدات الحياة نوعا من أمثلة الجتهادات عمر يصلح دليال على ما نقول، غير أنه في بعض األحيان تفرض ت

المخالفات، الحادة ليس فيه شئ من تناغم االجتهاد في ربطة بين األسباب والنتائج، فتصبح المخالفة صريحة

وواضحة ال يمكن تبريرها باالجتهاد الفتقاد أسبابه، وإنما تبرر فقط بأن عدم المخالفة مستحيل أو في احسن

الراشدين كما يحدث في كل عهد، ومثاله ما حدث عقب مقتل األحوال غير ممكن، وقد حدث ذلك في عهد

عمر ابن الخطاب، حين انطلق ابنه عبيد اهلل ابن عمر، و قتل ثالثة ظن فيهم التآمر على مقتل والده، ولم

يثبت ذلك في حق أحد منهم، وكان أحدهم الهرمزان، الذي أسلم وصح إسالمه، وقد واجه عثمان هذا الموقف

ه وكان رأي الدين فيه واضحا، أعلنه علي وأصر عليه، وهو أن يقتل عبيد اهلل بدم من قتل، في بدء واليت

، فقد تساءل الناس في شفقة، أيقتل عمر باألمس، ويقتل (إنسانية)لكن عثمان لم يملك إال المخالفة ألسباب

.. منطق.. وعهم عليه؟ابنه اليوم؟ أال يكفي آل عمر قتل عمر؟، أيفجعون فيه ثم في ولده قبل أن تجف دم

حكم الدين هو القصاص، وال بد .. لكن حكم الدين ثابت وواضح وال لبس فيه.. وظروف متغيرة.. وإنسانية

..من قتل عبيد اهلل

ويقال أن عمرو بن العاصي أفتى بفتوى بالغة الذكاء والمهارة عندما تولى عثمان، وسأل عمرو أن يخرجه

ال كان عمر قد قتل، : ل قتل الهرمزان في والية عمر؟ فأجابه عثمانه: من المأزق الصعب، فسأله عمرو

..إذن يتواله اهلل: ال، لم أكن قد توليت بعد، فقال عمرو: وهل قتل في واليتك؟ فأجابه عثمان: فسأله ثانية

والشاهد هنا أن عثمان حاول التخلص من المأزق بدفع دية الهرمزان من ماله، ولم يتحمل عبيد اهلل وزر

القتل أو حتى دية القتلى، وهو ما رفضه علي، الذي ظل يتوعد عبيد اهلل كلما لقيه بأنه إذا تولى فسوف يقتله

بدم الهرمزان، وما أن تولى علي حتى هرب عبيد اهلل إلى جيش معاوية، وحارب عليا إلى أن قتل في

..معركة صفين

، فقد ولى ولم يقدر على قتله عثمان ألنهم كانوا ويشاء القدر أن يقع على نفس المأزق، بل ربما بصورة أعقد

مسيطرين على المدينة، ثم انتقل من حرب إلى حرب وهم على رأس جيشه فلم يتمكن منهم، وعندما أعلن

معاوية أن مطلبه الوحيد أن يدفع علي إليه قتله عثمان، فوجئ علي بجيشه يهتف في صوت واحد، كلنا قتلة

..، وأصبح مستحيال على اإلمام علي أن يثأر من القتلة أو حتى يحاسبهمعثمان، فزاد الموقف تعقيدا

هي الحياة وليست الجنة، والبشر وليس المالئكة، وخال عصر النبوة ال يوجد عصر للنقاء المطلق، أو انعدام

هادات المخالفة المطلق وكلما تغير العصر أو تقدم، تعددت المتغيرات، وزادت المخالفات، وإذا كانت االجت

واسعة، والمخالفات واردة، قبل أن يمر ربع قرن على وفاة الرسول، وفي عهد معاصريه فكيف بنا بعد

، وأن نتوسع في (المخالفات االضطرارية)أربعة عشر قرنا من وفاة الرسول، أال نتوقع أن يزداد حجم

مما قبله سلف أصلح، في عصر ، وأن نقبل بحد أدنى من تطبيقات الدين، أقل بكثير(االجتهادات الضرورية)

الحقيقة أن القارئ الحرية كل الحرية في أن يرفض ما أقول .. أكثر تخلفا، وأقل تعقيدا انغالقا، وأكثر اتفاقا

وأن يستنكر ما أتوصل إليه، وما أراه رغم كل ما أتوقعه من استنكار واعتراض، حقا وعدال، وأمرا واقعا ال

قارئ فيما سنذكره عن خلفاء بن أمية وبنى العباس، ما يؤكد له صحة ما نقول، مهرب منه، وسوف يرى ال

..وحقيقة ما ندعى

قراءة جديدة في أوراق األمويين

للقارئ اآلن وهو ينتقل معنا من عصر الراشدين إلى ما يليه، أن يهيئ ذهنه للدعابة، ووجدانه لألسى،

، أو دعابة مغلفة باألسى، أما المجون فأبوابه شتى، وأما فحديث ما يلي الراشدين كله أسى مغلف بالدعابة

.االستبداد فحدث وال حرج

ليسمح لنا القارئ في البداية أن نقص عليه ثالث قصص موجزة، يفصل بينها زمن يسير، واختالف كثير،

، وما وهي إن تنافرت تضافرت، مؤكدة معنى واضحا، وموضحة مسارا مؤكدا، ومثبتة ما ال يصعب إثباته

.ال يسهل الهروب منه

:القصة األولى

هـ وقف عمر خطيبا على منبر الرسول في المدينة، وتحدث عن دور الرعية في صالح الحاكم 06عام

واهلل لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا، فانبسطت أسارير عمر، : وإصالحه فقاطعه أعرابي قائال

الحمد هلل الذي جعل في رعية عمر، من يقومه : ر كلمته المأثورة المشهورةوتوجه إلى اهلل حامدا شاكرا، وذك

…بحد السيف إذا أخطأ

:القصة الثانية

بماذا؟ : واهلل لتستقيمن بنا يا معاوية، أو لنقومنك فيقول: كان الرجل يقول لمعاوية: هـ قال ابن عون94عام

(144يوطي صتاريخ الخلفاء للس. )إذن نستقيم: بالخشب فيقول: فيقول

:القصة الثالثة

هـ خطب عبد الملك بن مروان، على منبر الرسول في المدينة، بعد قتل عبد اهلل بن الزبير قائال 54عام

(.واهلل ال يأمرني أحد بتقوى اهلل بعد مقامي هذا إال ضربت عنقه)

فه في عهود ثالثة، ثم نزل ثالث قصص موجزة، لكنها بليغة في تعبيرها عن تطور أسلوب الحكم، واختال

أولها عهد عمر بن الخطاب، درة عهود الخالفة الراشدة، وثانيها عهد معاوية ابن أبي سفيان مؤسس الخالفة

األموية، وثالثها عهد عبد الملك ابن مروان، أبرز الخلفاء األمويين بعد معاوية، وأشهر رموز البيت

.ة بن يزيد، ثالث الخلفاء األمويينالمرواني، الذي خلف البيت السفياني بعد وفاة معاوي

:أما القصة األولى

فهي نموذج لصدق الحاكم مع الرعية، وصدق الرعية مع الحاكم، ونحن ال نشك ونحن نقرأها في أن

األعرابي كان صادقا كل الصدق في قوله، وأنه كان يعني تماما ما يقول، وأنه كان على استعداد بالفعل لرفع

وتقويمه به إن لزم األمر ونحن ال نشك أيضا في أن عمر كان يدرك تماما أن السيف في وجه عمر

األعرابي صادق في مقولته، وأنه لهذا سعد، ومن أجل هذا حمد اهلل، وكان في سعادته وحمده صادقا كل

عي، الصدق، مع اهلل، ومع نفسه، ومع األعرابي، وباختصار فنحن أمام حوار تؤدي فيه الكلمات دورها الطبي

.حيث تعبر عن دخائل النفوس، في دقة، ووضوح، واستقامة

:وأما القصة الثانية

فهي نموذج رائع لخداع الكلمات حين يصبح للعبارة ظاهر وباطن، وللكلمة مظهر ومخبر، فالرجل في

تساؤل ؟ وهو (بماذا)تهديده أقرب للمداعبة، وأميل إلى الرجاء، ومعاوية في رده عليه يحسم الموقف بتساؤله

يعكس ثقة عالية في النفس، وهي ثقة تهوى فوق رأس الرجل ثقيلة وقاطعة، شأنها شأن السيف الحاسم

البتار، وما أسرع ما ينسحب الرجل سريعا محوال األمر كله إلى الدعابة، وهنا يدرك معاوية أن الرجل قد

مهارة وخفة، مرضيا غرور ثاب إلى رشده، فيعيد السيف إلى غمده الحريري، وينسحب هو اآلخر في

الرجل، ما دام الخشب هو السالح، وما دام القصد هو المزاح، والقارئ للحوار ال يشك في أن الرجل قال

شيئا وقصد شيئا آخر، وأن معاوية قال شيئا وقصد شيئا آخر، وأن كال الرجلين فهم قصد اآلخر، فكـر في

أن الرجل في كـره نحو معاوية، وفي فـره منه لم يكن أبدا الوقت المناسب، وفـر في الوقت المناسب و

.كجلمود صخر وإنما كان مثل كرة القش، ظاهرها متماسك وباطنها هش

:وننتقل إلى القصة الثالثة

وهي أقرب من القصة األولى في وضوحها وصراحتها واستقامة ألفاظها، غير أنها هذه المرة تعلن عكس

بالقتل في حسم وصراحة، ليس لمن يخالف األمير ويعترض عليه، وليس لمن يرفع ما أعلنه عمر، وتهدد

وقد خلد عبد الملك نفسه بذلك، فوصفه ( تقوى اهلل)في وجه السيف أو حتى الخشب، بل لمن يدعوه إلى

.الزهري بأنه أول من نهى عن األمر بالمعروف

خالفة معاوية، الرجل المحنك هذه قصص ثالث توضح كيف تطور األمر من خالفة الراشدين إلى

المجرب، الناعم المظهر، الحاسم الجوهر، المؤسس للملك، بكل ما يستوجبه التأسيس من سياسة وحنكة،

ومظهر ومخبر، ثم كيف أصبح األمر عندما استقر الملك، ولم يعد هناك داع للخفاء، أو مقتضى للخداع أو

بنا بين حاالت ثالث، أولها العدل الحاسم، وثانيها الحسم المداهنة، وبمعنى آخر فإن القصص الثالث تنتقل

.الباسم، وثالثها القهر الغاشم

وكل ذلك خالل نصف قرن ال أكثر، وقد رأينا أن نوردها في بدء حديثنا عن خالفة األمويين لداللتها، حتى

.د ومرارة الحقائقيخلد القارئ معنا إلى قدر من الرياضة الذهنية واالبتسام، بعيدا عن صرامة السر

ولعل القارئ قد تعجب من اجتراء عبد الملك، لكنا نسأله من اآلن فصاعدا أن يوطن نفسه على العجب، وأن

يهيئ وجدانه لالندهاش، وأن يحمد لعبد الملك صدقه مع نفسه ومع الناس، فسوف يأتي بعد ذلك خلفاء

م لمواعظ الزهاد، ثم ينسلون إلى مخادعهم عباسيون يخرجون على الناس بوجه مؤمن خاشع، وتسيل دموعه

فيخلعون ثياب الورع، وتلعب برؤوسهم بنت الحان، فينادمون الندمان، ويتسرون بالقيان، ويقولون الشعر

في الغلمان، وهم في مجونهم ال يتحرجون حين تناديهم جارية لعوب بأمير المؤمنين، أو يخاطبهم مخنث

سلمين، مادمنا نتحدث عن وضوح عبد الملك، وصدقه مع نفسه، فال بأس من بخليفة الم( معتدل القامة والقد)

(: 015تاريخ الخلفاء ص )قصة طريفة يذكرها السيوطي في كتابه

(.هذا آخر العهد بك: أفضى األمر إلى عبد الملك، والمصحف في حجره فأطبقه وقال: قال ابن أبي عائشة)

بد الملك بعد واليته، وبين ما تـحدثنا به نفس المراجع عن فقهه ونحن ال نجد تناقضا بين أفعال وأقوال ع

:وعلمه ومن أمثلة ذلك

لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرا وال أفقه وال أنسك وال أقرأ لكتاب اهلل من عبد الملك : قال نافع)

بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب، فقهاء المدينة سعيد بن الملك بن مروان، وعروة: ابن مروان، وقال أبو الزناد

: أنكم معشر أشياخ قريش يوشك أن تنقرضوا، فمن نسأل بعدكم؟ فقال: قيل البن عمر: وقال عبادة بن نسى

(.أن لمروان ابنا فيها فسألوه

نقول ال تناقض على اإلطالق ألن ذلك كله كان قبل واليته، فلما ولي أدرك أن عهد النسك والعبادة قد ولى،

صحف وأطلق شيطان الحكم واإلمارة وصدق في قوله للمصحف أن هذا هو آخر العهد به، ودليلنا وأطبق الم

على ذلك أن ساعده األيمن كان الحجاج، وإذا ذكر الحجاج هربت المالئكة وأقبلت الشياطين، وقد عرف عبد

فكانت وصيته الملك للحجاج مواهبه وأدرك أنه بالحجاج قد وطد دعائم الحكم وأرسى قواعد الخالفة،

.األخيرة لولده وولى عهده الوليد أن يحفظ للحجاج صنيعه وأن يلزمه وزيرا ومشيرا، وقد كان

ربما كان البعض، وما يضيرنا من سيرة رجل أعلن طالقه للمصحف، وأدار ظهره لكتاب اهلل، وحكم بهواه،

ة إمارة المؤمنين، وخالفة ولنا أن نذكرهم أنه فعل ما فعل، وسفك ما سفك وقتل من قتل، تحت عباء

المسلمين، وأن المسلمين جميعا كانوا يرددون خلف أئمتهم كل جمعة دعاء حارا أن يعز اهلل به الدين، وأن

يوطد له دعائم الحكم والتمكين، وأن يديمه حاميا لإلسالم وإماما المسلمين وأن فقهاء عصره كانوا يرددون

مونه أن من حكم المسلمين ثالثة أيام، رفعت عنه الذنوب ولعلنا نظلم عبد حديثا تذكره لنا كتب التاريخ، مض

الملك كثيرا إذا قيمناه من زاوية العقيدة، فلم يكن عبد الملك فلتة بين من سبقه أو من لحقه، وكان في ميزان

ن الزبير، وغزا السياسة والحكم حاكما قديرا، ورجل دولة عظيما بكل المقاييس، فقد أخمد فتنة عبد اهلل ب

أرمينية، وغزا المغرب، وغزا المدن، وحصن الحصون، وضرب الدنانير ألول مرة، ونقل لغة الدواوين من

:الفارسية إلى العربية، وقد لخص أسلوبه في الحكم في وصيته البنه الوليد وهو يحتضر

، وانظر الحجاج فأكرمه (العبارةالحظ مفهوم الحكم بالحق اإللهي في هذه )يا وليد اتق اهلل فيما أخلفك فيه

فأنه هو الذي وطأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد ويدك على من ناوأك، فال تسمعن فيه قول أحد، وأنت

ثم أخذته –أحوج إليه منه إليك، وادع الناس إذا مت إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا

أتحن حنين األمة؟ إذا مت فشمر وائتزر، والبس جلد النمر، وضع ما هذا؟ –غفوة فبكى الوليد فأفاق وقال

.(سيفك على عاتقك فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه

وقد حفظ الوليد الوصية وقام بها خير قيام فكان رجل دولة وحكم من طراز فريد، وكان فاتحا عظيما

ما يكون عن حديث الدين والعقيدة فلم يذكر عنه فيهما ال قليل وال للثغور، فقد فتح الهند واألندلس، وكان أبعد

كثير، إال بضعة أقوال عن أنه كان يلحن كثيرا في قراءاته للقرآن، وفي خطبه على المنابر، وقد حكم عبد

سعين الملك عشرين عاما وحكم الوليد عشرة أعوام، أي أن عبد الملك والوليد حكما ثالثين عاما من اثنتين وت

.عاما هي عمر الدولة األموية

يزيد بن معاوية )تلك الدولة التي ال يجوز أن نتحدث عنها دون أن نتوقف أمام ثالثة خلفاء هم اليزيدان

.والوليد بن يزيد( ويزيد بن عبد الملك

هناك أما يزيد بن معاوية، فقتله للحسين معروف، وقد أفاض فيه الرواة بما ال حاجة فيه لمزيد، غير أن

حادثة يعبرها الرواة في عجالة، بينما نراها أكثر خطرا من قتل الحسين، ألنها تمس العقيدة في الصميم،

وتضع نقاطا على الحروف إن لم تكن النقاط قد وضعت على الحروف بعد، وتستحق أن يذكرها الرواة، وإن

..نصف قرن.. وفاة الرسول، فقطيتدارسها القارئ في أناة، وأن يتذكر أنها حدثت بعد نصف قرن من

( الحرة)لقد هاجم جيش يزيد المدينة، حين خلع أهلها بيعته وقاتل أهلها قليال ثم انهزموا فيما سمى بموقعة

فأصدر قائد الجيش أوامره باستباحة المدينة ثالثة أيام قيل أنه قتل فيها أربعة آالف وخمسمائة، وأنه قد

(:مسلم بن عقبة)كان ذلك كله بأمر يزيد إلى قائد جيشه فضت فيها بكارة ألف بكر، وقد

ادع القوم ثالثا فأن أجابوك وإال فقاتلهم، فإذا ظهرت عليها فأبحها ثالثا، فكل ما فيها من مال أو دابة أو

(سالح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثالث فاكفف عن الناس

له، يفعل فيهم وفي ( عبيد)أن يبايعوا يزيد على أنهم ولم يكتف مسلم باستباحة المدينة بل طلب من أهلها

أنه ( وهم)أموالهم وفي أوالدهم ما يشاء، وهنا يبدأ مسلسل المفاجآت في اإلثارة، فالبعض ما زال في ذهنه

في دولة اإلسالم، وأنه قادر على إلزام مسلم ويزيد بالحجة، بما ال سبيل إلى مقاومته أو حتى مناقشته، وهو

(.أبايع على كتاب اهلل وسنة رسوله: )شروط مسلم، ويرد عليه كأنه يلقمه حجرا ال يقبل

وال يعيد مسلم القول، بل يهوى بالسيف على رأس العابد الصادق في رأينا، والرومانسي الحالم في رأى

، مسلم، ويتكرر نفس المشهد مرات ومرات، هذا يكرر ما سبق، فيقتل، وهذا يبايع على سيرة عمر فيقتل

ويستقر األمر في النهاية لمسلم، وما كان له إال أن يستقر، فالسيف هنا أصدق أنباء من الكتب، وهو سيف ال

ينطق بلسان وال يخشع لبيان ويصل الخبر إلى يزيد، فيقول قوال أسألك أن تتمالك نفسك وأنت تقرؤه، وهو ال

:تأمل وانذهليقوله مرسال أو منثورا، بل ينظمه شعرا، اقرأه ثم تخيل و

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع األسل

حين حكت بقباء بركها واستمر القتل في عبد األشل

ليت أجدادي في موقعة بدر شهدوا اليوم كيف جزع الخزرج )والذي يعنينا هو البيت األول الذي يقول فيه

(من وقع الرماح والنبل

ه، فواضح أنهم أعداء الخزرج في موقعة بدر، والخزرج أكبر قبائل األنصار، وكانوا أما من هم أجداد

بالطبع في بدر ضمن جيوش المسلمين، وهنا يزداد المعنى وضوحا، فيزيد خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين،

لو كانوا يتمنى لو كان أجداده من بني أمية، ممن هزمهم الرسول والمهاجرون واألنصار في بدر، يتمنى

.على قيد الحياة، حتى يروا كيف انتقم لهم من األنصار في المدينة، ثم نجد من ينعت الخالفة باإلسالمية

وال يتوقف أمام هذه الحادثة لكي يقطع الشك باليقين وليتحسر على اإلسالم في يد حكام المسلمين، وليترحم

( أمير المؤمنين)إلسالم، وعلى يد من، على يد على شهداء األنصار انتقاما منهم لمناصرتهم للرسول وا

األبيات السابقة في موضعين أحدهما ( البداية والنهاية)وحامي حمى اإلسالم والعقيدة، ويروي ابن كثير في

.موقعة الحرة وثانيهما عندما وصل رأس الحسين إلى يزيد

سول في آل بيته، ويضيف ابن كثير بيتا ولو صدقت الثانية لكانت أنكى وأمر، ألن االنتقام هنا مباشر من الر

:يذكره متشككا دون أن يقطع الشك باليقين، داعيا باللعنة على يزيد إن كان قد قاله والبيت يقول

لعبت هاشم بالملك فال ملك جاء وال وحي نزل

، وكل ذلك لم يشفع لفقهاء ولعلى استبعد أن يقول يزيد هذا، فللفكر درجات، وللمروق حدود، وللتفلت مدى

عصر يزيد ولكـتاب تاريخ الخالفة اإلسالمية أن يذكروا أن يزيد مغفور له، وأن ذلك ثابت باألحاديث

.(:030المجلد الرابع الجزء الثامن ص –البداية والنهاية )النبوية، فابن كثير يذكر

أول : " قد ثبت في الحديث أن رسول اهلل قالو.. كان يزيد أول من غزا مدينة القسطنطينية في سنة وأربعين)

وال تعليق "(... جيش يغزوا مدينة قيصر مغفور له

وننتقل إلى يزيد بن عبد الملك، التاسع في الترتيب بين خلفاء بني أمية، وأحد أربعة تولوا الخالفة من أبناء

ن نخص منهم يزيد بالحديث، ألنه عبد الملك بن مروان هم على الترتيب، الوليد وسليمان ويزيد وهشام، ونح

أتى في أعقاب عمر بن عبد العزيز، الذي قيل عنه أنه مأل الدنيا عدال طوال عامين، فإذا بيزيد يأتي بعده

تاريخ الخلفاء ص )لكي يمألها مغاني وشرابا ومجونا وخالعة، طوال أربعة أعوام، ويذكر السيوطي

090:)

(.شيخا فشهدوا له ما على الخليفة حساب وال عذابحتى أتى بأربعين )أنه ما أن ولي

وهنا يدرك القارئ أن العلة لم تقتصر على الخلفاء، وإنما امتدت أيضا إلى العلماء والفقهاء، وأنه ما دام

هؤالء يفتون أنه ال حساب على يزيد وال عذاب وال عقاب، فليفعل يزيد ما يشاء، وليتفوق على خلفاء الدولة

وانتهت ( سالمة)لها في بابين ال يطاوله فيهما أحد وهما العشق والغناء، فقد بدأ خالفته بعشق اإلسالمية ك

(.حبابة)خالفته، بل وحياته بسبب عشقه لجارية أخرى اسمها

وقبل أن نتحدث عن بعض من ذلك، نذكر له أيضا رغبة تفرد بها بين الخلفاء، وذكرت له، ونقلت عنه،

..(يطير)وهي رغبته في أن

أريد أن أطير، : فطرب طربا شديدا ثم قال)وقصة ذلك أنه كان يوما في مجلسه، فغنته حبابة ثم غنته سالمه

(..يا موالي، فعلى من تدع األمة وتدعنا: فقالت له حبابة

ء، طبعا، ماذا يفعل المسلمون لو طار الخليفة، من يمأل أنحاء الدولة اإلسالمية طربا وغناء، وعشقا واشتها

اقعد يزيد حبابة عن يمينه وسالمه عن يساره، وقال أريد أن : أن أبا حمزه الخارجي قال)ويذكر المسعودي

.أطير، فطار إلى لعنة اهلل وأليم عذابه

090ص 4جزء 4مجلد –البداية والنهاية البن كثير )ويروي ابن كثير قصة وفاة يزيد على النحو التالي

(:065ص 3ية في مروج الذهب ج ويذكر المسعودي نفس الروا

بتشديد الباء األولى وكانت جميلة جدا، وكان قد –وقد كان يزيد هذا يحب حظية من حظاياه يقال لها حبابة )

لقد هممت : اشتراها في زمن أخيه بأربعة آالف دينار، من عثمان بن سهل بن حنيف، فقال له أخوه سليمان

يا أمير المؤمنين، هل : قى أفضت إليه الخالفة قالت امرأته سعدة يوماأن أحجر على يديك، فباعها، فلما ب

بقى في نفسك من أمر الدنيا شيء؟ قال نعم، حبابة، فبعثت امرأته فاشترتها له ولبستها وصنعتها وأجلستها

ما أو: يا أمير المؤمنين، هل بقى في نفسك من أمر الدنيا شيء؟، قال: من وراء الستارة، وقالت له أيضا

فحظيت الجارية عنده وكذلك زوجته –وأبرزتها وأخلته بها وتركته وإياها –أخبرتك؟ فقالت هذه حبابة

أيضا، فقال يوما أشتهي أن أخلو بحبابة في قصر مدة من الدهر، ال يكون عندنا أحد، ففعل ذلك، وجمع إليه

ش والبسط الهائلة، والنعمة الكثيرة في قصره ذلك حبابة، وليس عنده فيه أحد، وقد فرش له بأنواع الفر

السابغة، فبينما هو معها في ذلك القصر، على أسر حال وأنعم بال، وبين أيديهما عنب يأكالن منه، إذ رماها

بحبة عنب وهي تضحك، فشرقت بها وماتت، فمكث أياما يقبلها ويرشفها وهي ميتة حتى أنتنت وجيفت فأمر

(عندها على قبرها هائما ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه بدفنها، فلما دفنها أقام أياما

والقصة كما يذكرها ابن كثير، نموذج فريد لصحيح العشق، وأصيل الغرام، وال بأس أن تذوب لها قلوب

شاذة أشد ما –في تقديرنا –الصبية، وتنفطر لها قلوب الصبايا، وتسيل من أجلها قلوب المحبين، لكنها

شذوذ، بعيدة أكثر ما يكون البعد، عندما يتعلق األمر بأمير المؤمنين، وإمام المسلمين، وخادم يكون ال

.الحرمين، وحامي حمى اإليمان، والملتزم بأحكام القرآن، وبسنة نبي الرحمن

ولعلنا نتساءل ومعنا كل الحق، ما بال المطالبين بعودة الخالفة يستنكرون الحانات، ويفسقون المغنيات

فرون الراقصات، بينما هذا من ذاك بل هذا بعض ذاك، ولقد عاصر يزيد أئمة كبارا، وفقهاء عظاما من ويك

أمثال الحسن البصري وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهم، وكانوا أقرب ما يكونون إلى التقية،

، محددا بحنكة، يظهر فيه وكانوا يوصلون بالعطايا ويتحفون بالهدايا، ويؤدون أحيانا دورا مرسوما بدقة

الخليفة مسبل العينين، يسألهم فيجيبون، ويطلب منهم الموعظة فيعظون، وربما خوفوه من النار، وعذاب

الجبار، ووحدة القبر، وموقف الحشر، وهو منصت خاشع، تسيل دموعه مدرارا، بينما هم مدركون لحدود

الخالفة، أو التهديد بتأليب الرعية، أو الحكم بالكفر، الحديث، ومدى الموعظة، ال يتجاوزون إلى التعريض ب

ذلك كله خارج السيناريو المرسوم والمعلوم، والذي ينتهي دائما بصراخ الخليفة ونحيبه، حتى يخشى عليه أو

يغشى عليه، أيهما أقرب إلى قدراته، وأنسب لملكاته، وما أسرع ما ينتقل األمر إلى الرعية بسرعة البرق،

نه في خشوع وإيمان، وينقله إلينا كتاب الديوان، فنشربه كما شربته رعية يزيد وغير يزيد، ونشرب فيتداولو

معه المزيد، مما تسطره أقالم المحترفين، وتردده على مسامعنا ألسنة المكفرين والجهاديين، ما علينا، ففي

.الجعبة مزيد

يراه حجة، منكرا علينا ما أنكرناه على يزيد، غير أنا نتوقع أن يعترض علينا معترض، رافعا في وجهنا ما

مؤكدا لنا أن يزيد لم يرتكب منكرا، ولم يقترف إثما، فالتسري بالجواري والتمتع بما ملكت األيمان أمر ال

ينكره الشرع، وال يشترط فيه القران، وال ينهى عنه القرآن، وهو رخصة ترخص بها يزيد، وترخص بها

.يد، واهلل يحب أن تؤتي رخصة كما تؤتي عزائمهكبار الصحابة قبل يز

وقد كان يزيد ككثيرين في عصرنا، يتعشقون الرخص، ويسبقون بها العزائم، وهنا نقول له قف، وحاذر

فأنك تركب صعبا، فنحن وأن وافقناك على أن التسري بالجواري والتمتع بها ملكت األيمان، ال يتناقض مع

كام القرآن، إال أنك يجب أن تدرك أن لإلسالم روحا، وللدين جوهرا، روح عصر يزيد، وال يخالف أح

.وللرخص حدودا

وليس منطقيا أن تكون إباحة التسري سبيال إلى التهتك، أو التمتع بما ملكت األيمان وسيلة لهجر اإليمان، أو

ب إذا زنى النظر، فال أقل الحالل سبيال إلى التحلل، وإذا كنا نناشد الرعية غض البصر، ونتوعدهم بالعذا

من أن ننهى الخليفة عن التفرغ للخلوة على أسر حال وأهنأ بال، الثما راشفا متمنيا أن يطير، ال لشيء إال

.ألن اهلل أعطاه جناحين، من مال وسلطان، فتوسع فيما ملكت األيمان

كان منهمكا في اللذات : )أنه العباسي –ولعل يزيد لم يكن في ذلك فلتة، فقد روي عن الخليفة المتوكل

(.346 – 394تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ( )والشراب، وكان له أربعة آالف سرية، ووطىء الجميع

في عصرنا الحديث، لكنها ممجوجة مكروهة إن ( البورنو)وقد تثير هذه القدرات الخارقة لعاب منتجي أفالم

ر اإلسالم، ولعل هذا كاف حتى يلزم المعترض علينا كان الحديث عن الحكام، في اإلسالم أو حتى في غي

حده، ويثوب إلى رشده، ويتركنا ننتقل من حديث يزيد إلى حديث ولده، الوليد بن يزيد الذي أوصى له يزيد

بالخالفة بعد أخيه هشام، ووفى هشام بعهده ألخيه، رغم ما كان يسمعه ويأتيه، من أخبار فسق الوليد

دت بعد واليته، حين فاق الوليد أباه بل فاق ما عداه، وفعل ما لم يفعله أحد في ومجونه، وهي أخبار تأك

األولين واآلخرين، حيث يروي عنه أنه قد اشتهر بالمجون وبالشراب وباللواط وصدق أو ال تصدق، برشق

.المصحف بالسهام، وكان إلى جانب ذلك شاعرا مطبوعا، سهل العبارة، يحسن اختيار األلفاظ ورويه

وقد شاء اهلل أن يروقه هذه الموهبة حتى يخلد لنا آثاره شعرا يتناقله الرواة، ويتبعونه بالعياذ باهلل، وبال حول

وال قوة إال باهلل، وربما بشهادة أن ال إله إال اهلل، ومن حسن حظ الوليد، وسوء حظ القارئ أن كثيرا من

اظه، وشذوذ أفعاله، لكن ال بأس أن نبدأ حديث شعره وبعضا من قصصه، ال نستطيع روايته لوقاحة ألف

:الوليد بالمدافعين عنه

لم يصح عن الوليد كفر وال زندقة، بل اشتهر بالخمر والتلوط، فخرجوا عليه لذلك، وذكر : قال الذهبي)فقد

لها في مه، خالفة اهلل عنده أجل من أن يجع: كان زنديقا، فقال المهتدي: الوليد مرة عند المهتدي فقال رجل

(زنديق

هذا حديث المدافعين عن الوليد، المنكرين أن يتهم بالكفر، أو أن يوصف بالزندقة، وهم في دفاعهم يسوقون

حججا هشة، فمن قائل أنه لم يتجاوز التلوط أو شرب الخمر، وكأن ذلك هين ويسير، ومن قائل أن اهلل أرحم

رحمنا بخالفة الزنادقة، من أمثال الوليد، حتى يعطي من أن يجعل خالفته في زنديق، بينما نرى أن اهلل قد

أمثالنا حجة نفحم بها المزايدين، المدعين أن الدولة ال تنفصل عن الدين، وأنهما معا حبل اإلسالم المتين،

بينما حقيقة األمر أن اإلسالم في أعلى عليين، وأنه ال يضار إال بالمسلمين، وعلى رأسهم الحكام باسم

غير –إن وجدت –إنه ال ضمان للمحكومين إن جار الحكام وأفسدوا، فبيعتهم مؤبدة، والشورى اإلسالم، و

.ملزمة، أو إن شئنا الدقة مقيدة

واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد، من ورائه جهنم ويسقى " –قرأ ذات يوم )وأقرأ معي ما فعل الوليد حين

:وأقبل يرميه وهو يقول" السهام " اب فدعا بالمصحف فنصبه غرضا للنش –" من ماء صديد

فها أنا ذاك جبار عنيد أتوعد كل جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم الحشر فقل يارب خرقني الوليد

أن الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبي وأن الوحي لم يأته عن " النحوي " وذكر محمد بن يزيد المبرد

:شعرربه، ومن ذلك ال

تلعب بالخالفة هاشمي بال وحي أتاه وال كتاب

فقل هلل يمنعني طعامي وقل هلل يمنعني شرابي

ولعل القارئ بعد قراءة ما سبق ال يذهل كما ذهلنا، وال ينزعج كما حدث لنا، ونحن نذكر له أن الوليد حاول

م حج هو ورفاقه وأن حاشيته نجحت في إقناعه أن ال يفعل بعد ألى، نصب قبة فوق الكعبة ليشرب فيها عا

راود أخاه عن نفسه، فالواضح من سيرته أنه أطلق لغرائزه العنان، حتى غلبت شهوة ( تلوطه)وأنه في

الغناء والشراب على الخاصة والعامة في أيامه كما يذكر المسعودي، وتألق نجوم الغناء في عصره، فكان

ريج ومعبد والغريض وابن عائشة وابن محرز وطويس ودحمان، ولعله أدرك أنه تجاوز الحد، منهم ابن س

فلم يعد يعنيه أن يضيف إلى ذنوبه ذنبا، أو إلى سيرته مثلبا، شأنه في ذلك شأن ضعاف اإليمان، حين

ر عن رأيه هو يقنطون من رحمة اهلل، فيضاعفون من معاصيهم، ونحن في هذا ال نلتمس له عذرا، وإنما نعب

:في نفسه، حين أطلقه شعرا فقال

اسقني يا يزيد بالقرقارة قد طربنا وحنت الزمارة

اسقني اسقني، فإن ذنوبي قد أحاطت فما لها كفارة

يد وبالفعل، فقد أحاطت به الذنوب، وتألب عليه الصالحون، وانتهى األمر بخروج ابن عمه يزيد بن الول

عليه، وقتله، بعد خالفة قصيرة استمرت عاما وثالثة أشهر وشاء القدر أن تكون خالفة يزيد أقصر، فال

تستمر إال خمسة شهور يموت بعدها ليتوالها بعده شقيقه إبراهيم لمدة سبعين يوما فقط ثم يعزل على يد

ة األموية بمصرع مروان على يدي مروان بن محمد، انتقاما لمصرع الوليد بن يزيد، ثم ينتهي عصر الدول

.العباسيين، بعد خالفة استمرت حوالي خمس سنوات

:ونتوقف قليال قبل أن ننتقل إلى خالفة العباسيين، مستخلصين نتيجتين نوجزهما فيما يلي

:النتيجة األولى

توحات اإلسالم أننا نشهد في الدولة األموية عهدا مختلفا كل االختالف عن عهد الراشدين، أضاف إلى ف

الكثير، حتى امتدت الدولة اإلسالمية من الهند شرقا إلى األندلس غربا، وأضاف إلى سلطة الدولة وهيبتها

وتماسكها الكثير، حيث لم يخرج فيها أحد من األمويين على آخر، إال في نهاية الدولة حين خرج يزيد على

النهاية، بينما حفل تاريخ العباسيين بكثير من الخروج الوليد، ثم خرج مروان على يزيد فكان ذلك نذيرا ب

واالنقسام داخل األسرة الحاكمة حتى قتل اإلبن أباه، واألب ابنه، وشاع خلع الخلفاء وسمل أعينهم، وقتلهم

.بسحق مذاكيرهم، وغير ذلك من األحداث على مدى الخمسمائة عام األخيرة في حكم العباسيين

المنصور، والمأمون، رجال دولة متفردين في تاريخ الدولة العباسية، ال يناظرهم وعلى حين يبدو أبو جعفر

أحد، وال يطاولهم مطاول، نرى أن الدولة األموية على قصر عمرها قد حفلت برجال الدولة العظام، وعلى

.رأسهم معاوية، ورجل الدولة األول في تاريخ الدولة اإلسالمية كلها

مر؟وقد يتساءل البعض، وأين ع

ونرد عليه بأن عمر قد تفرد بأنه الوحيد في تاريخ الخالفة اإلسالمية الذي يمكن أن يطلق عليه وصف

، بينما ال تجتمع الصفتان بعد ذلك ألحد، فهناك رجال الدين مثل علي بن أبي (رجل الدين والدولة معا)

(.عباسيال)، والمهتدي (األموي)، وعمر بن عبد العزيز، (رابع الراشدين)طالب،

، (هشام بن عبد الملك)، (الوليد بن عبد الملك)، (عبد الملك بن مروان)، (معاوية)وهناك رجال الدولة مثل

عشرة خلفاء بالتمام ( اثنتين وعشرين عاما)وهم أربعة خلفاء حكموا سبعين عاما، بينما حكم الفترة الباقية

.والكمال

، نضع في اعتبارنا هيبة الحكم، وفتح (رجل الدولة)ين مقترنا بلقب وحينما نذكر أسماء الخلفاء األربعة السابق

الثغور، وعمارة البلدان، وفي تقديرنا أن هؤالء الخلفاء، قد ارتبط ارتباطا وثيقا بفصلهم بين الدين والدولة

بن مثال أوضح على ذلك، ولعل موقف عبد الملك ( علي)عند قيامهم بأمانة الحكم، ولعل موقف معاوية من

مروان من المصحف عندما بلغته نبأ واليته مثال أوضح، وقد أدرك كل منهم أنه ال يولى بصفته األصلح

دنيا، أو األكثر إيمانا، وإنما يولى بوسائل دنيوية محضة، وعليه إن أراد أن يستمر، أن يضع نصب عينه أن

لفاء األربعة اختيار معاونيهم، فكان منهم الوالية من جنس التولية، فكالهما دنيا وسطوة وحكم، وقد أجاد الخ

عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، ومسلم بن عقبة، والحجاج بن يوسف الثقفي، وهم

بموازين السلطة والسطوة رجال، وبمقاييس عصرهم قادة، وهم أهل الدهاء ال النقاء، والسيف ال المصحف،

إلسكات المعارض قطع رأسه، وأن الخوف إذا تمكن من النفوس توطن وقد أرتأوا جميعا أن أسهل السبل

فيها، فمكنوه ووطنوه وتعهدوه بالرعاية حتى صار ماردا، وحذوا حذو مؤسس دولتهم معاوية، رجل الغاية

، حيث يروى عنه أنه كان يضع السم لمعارضيه (إن هلل جنودا من عسل)ال الوسيلة، رجل الحكمة الشهيرة

، وأنه هكذا كانت نهاية الحسن، واألشتر النخعي وغيرهم، ورغم أن أحدا ال يقر معاوية، أو غيره في العسل

...على فعالهم أو على األقل ال يدعو للتأسي بهم، إال أنه من الواجب أن نتعلم مما فعلوا درسا بليغا

أسلحته، وأن ينأى بنفسه إن على الحاكم ـ أي حاكم ـ أن يتعرف جيدا على ساحته، وأن يتمسك جيدا ب

وبحكمه عن استعارة سالح اآلخرين، أو االنتقال إلى ساحتهم، أو الرقص على أنغامهم، ولو حاول معاوية

أو عبد الملك، ولو حاول مساعدهم مثل زياد أو الحجاج، أن يحتكموا إلى القرآن، أو يناظروا مخالفيهم حول

اإلسالم، أو يتباهوا على المخالفين لهم والخارجين عليهم صحيح اإليمان، أو يفسروا قراراتهم بتعاليم

بالصالح والتقوى ونظافة اليد ونقاء السريرة، النتهي حكمهم قبل أن يبدأ، وألخلى معاوية مكانه لحجر بن

عدى، ولتنازل عبد الملك عن منصبه للحسن البصري، لكنهم احتكموا للسيف، وهو دستور عصرهم، فدانت

.ل عليهم الحكم، وربما سعدت الرعية باالستقرار واألمن واألمانلهم الدولة، وسه

ولعل عصرنا ال يخلو من سيف متحضر هو الدستور، ال يسيل دما وإنما يحفظ استقرارا، وال يطيح برؤوس

وإنما يلزمها جادة الصواب، وليس لحاكم في عصرنا، أو لنظام حكم في عالمنا المعاصر إال أن يستوعب

ين، بأسلوب العصر ال بأسلوبهم، وليس له أن يحاور الخارجين في ساحتهم، أو بسالحهم أو أن درس السابق

يرقص على أنغامهم، وإنما عليه أن يلزمهم بالمحاورة في ساحته، فليس أمامه وال أمامهم ساحة غير ساحة

لشرعية، ليحمدوا اهلل أن الدستور، وليس هناك من سالح إال القانون، وليس هناك من أنغام إال الديمقراطية وا

يجدوا فينا يزيدا، ولم يتطرف منا وليد، ولم يتول وزارة الداخلية في بالدنا حجاج، ولم يتملك منا عبد الملك،

ولم يدع أحد من حكامنا أنه ال حساب عليه وال عقاب، غاية ما في األمر أنه يوكل إلينا حساب السياسة في

الدستور ومؤسسات الدولة في أمور الحكم، ويترك ونترك حساب اآلخرة أمور السياسة، ويحتكم أمامنا إلى

.إلى اهلل وليس إلى الجماعات اإلسالمية أو أئمة المساجد المسيسين

:النتيجة الثانية

أن الشعر واألدب وفن العمارة والغناء بل وأكثر من ذلك مذاهب الفقه واجتهادات الفقهاء، قد بدأت في

للدولة الدينية ووصلت للغاية في ( الشكلية)نهاية الدولة األموية، ومع انحسار القيود الظهور والتألق مع

.العصر العباسي األول

يكاد القارئ يالحظ عالقة طردية بين دنيوية الدولة وتألق الفكر واألدب والعلوم والفنون والفقه، فحينما تزداد

ع ازدياد سطوة الدين في الدولة الدينية إال هذه يتألق أولئك، وعلى العكس من ذلك يضمحل كل شيء م

.العبادة وقصص الزهاد وأقوال الصالحين

وال أحسب أن ما أذكره هنا استنتاج بقدر ما هو حقيقة بسيطة وواضحة، وقد مضى عهد الراشدين، وخلدت

أو يبقى لألجيال، لنا كتب التاريخ سكناته وأحداثه، فلم تسمع فيه قصيدة الفتة، أو فنا يطرب أو يهز الوجدان

ذلك ألن الفن حرية، والحرية ال تتجزأ، والفنان ال يتألق إال إذا أحس بفكره طليقا، وبوجدانه منطلقا،

وبوجدان اآلخرين مرحبا، وبأذهانهم سعيدة بإبداعاته، مستعدة أن تغفر له شطحاته، مقبلة على الحياة ال على

.الموت، متفتحة للنغم ال للوعيد

أن ذلك كله جزء من طبيعة الدولة الدينية، بل هو متنافر معها كل التنافر، متناقض مع قواعدها، وال أحسب

أشد التناقض، ولعل إحدى مشاكل الداعين للدولة الدينية أنهم يدركون أنها تحجر على كل إبداع أو تفتح أو

سنا، ال يمكن قبوله بمقاييس الدولة إجهاد للذهن أو اجتهاد للعقل، وأن كل ما يعيشه الناس ويتقبلونه تقبال ح

الدينية بحال، فاألغاني مرفوضة، والموسيقى مكروهة عدا الضرب على الدفوف، والمغنيات فاجرات

نامصات متنمصات، والمتغنون بغير الذكر ومدح الرسول فاسقون يلهون المسلمين عن ذكر اهلل ويدعونهم

إثارة للفتن، واختالطها بالرجال جهر بالفسق، والتمثيل إلى الفاحشة، وممارسة المرأة للرياضة فتنة و

مرفوض ألنه كذب، وألن هزله جد وجده هزل ورسم الصور لألحياء حرام، وإقامة التماثيل شرك،

والديمقراطية مرفوضة ألنها حكم البشر وليس حكم اهلل، ومعاملة أهل الذمة على قدم المساواة إن لم تكن

الية للذمي، وباختصار عليهم أن يهدموا كل شيء، ويظلموا كل شيء، ويمنعوا منكرا فهي مكروهة، وال و

كل شيء، وأن تقام دولتهم على أنقاض كل شيء، وبديهي أن الحديث في هذا اإلطار عن حرية الفكر لغو،

ع، وأن ادعاء حرية العقيدة هراء، وأن تصور نهضة األدب أو الفن نوع من أحالم اليقظة ال يستقيم مع الواق

وال يستقيم الواقع معه، ولعل هذا أحد أسباب حرصهم على االمتناع عن بلورة برنامج سياسي متكامل، به

قدر قليل من المواعظ والكلمات الطنانة، وقدر كبير من تصور الواقع أو معايشته، وبه قدر ولو معقول من

.احترام عقولنا، ناهيك عن احترام مشاعرنا

...ينوننتقل إلى دولة العباسي

قراءة جديدة في أوراق العباسيين

ليست الدولة العباسية في حاجة إلى تقديم، فقد قدمت نفسها على يد مؤسسها، السفاح، أول خلفاء بني

أن اهلل رد علينا حقنا، وختم بنا كما افتتح بنا، فاستعدوا فأنا السفاح )العباس، المعلن على المنبر يوم مبايعته

(.يرالمبيح، والثائر المب

وقد أثبت السفاح أنه جدير بالتسمية، فقد بدأ حكمه بقرارين يغنيان عن التعليق وأظن أنه ليس لهما سابقة في

:التاريخ كله، كما ال أظن أن أحدا بعد السفاح قد بزه فيما أتاه، أو فاقه فيما فعل

ج جثث خلفاء بني أمية من بلغة العصر الحديث فهو أمره بإخرا( 1)أما القرار األول، أو القرار رقم *

:قبورهم، وجلدهم وصلبهم، وحرق جثثهم، ونثر رمادهم في الريح، وتذكر لنا كتب التاريخ ما وجدوه

(:الكامل في التاريخ البن األثير )فيقول ابن األثير

أبي فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إال خيطا مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية بن )

سفيان فوجدوا فيه حطاما كأنه الرماد، ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا جمجمته، وكان ال يوجد في

القبر إال العضو بعد العضو غير هشام بن عبد الملك فإنه وجد صحيحا لم يبل منه إال أرنبة أنفه فضربه

الخلفاء وغيرهم فأخذهم ولم يفلت منهم إال بالسياط وصلبه وحرقه وذراه في الريح، وتتبع بني أمية من أوالد

(رضيع أو من هرب إلى األندلس

(:مروج الذهب للمسعودي)ويروي المسعودي القصة بتفصيل أكثر فيقول

خرجت مع عبد اهلل بن علي لنبش قبور بني أمية في : حكى الهيثم بن عدي الطائي، عن عمرو بن هانئ قال)

إلى قبر هشام، فاستخرجناه صحيحا ما فقدنا منه إال خورمة أنفه، فضربه أيام أبي العباس السفاح، فانتهينا

عبد اهلل بن علي ثمانين سوطا، ثم أحرقه، واستخرجنا سليمان من أرض دابق، فلم نجد منه شيئا إال صلبه

ى وأضالعه ورأسه، فأحرقناه، وفعلنا ذلك بغيرهم من بني أمية، وكانت قبورهم بقنسرين، ثم انتهينا إل

دمشق، فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك فما وجدنا في قبره قليال وال كثيرا، واحتفرنا عن عبد الملك فلم نجد

إال شئون رأسه، ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فلم نجد إال عظما واحدا، ووجدنا مع لحده خطا أسود كأنما

(.ميع البلدان، فأحرقنا ما وجدنا فيها منهمخط بالرماد في الطول في لحده، ثم اتبعنا قبورهم في ج

ولعلي أصارح القارئ بأنني كثيرا ما توقفت أمام تلك الحادثة بالتأمل، ساعيا لتفسيرها أو تبريرها دون

جدوى، مستبشعا لها دون حد، فقد يجوز قتل الكبار تحت مظلة صراع الحكم، وقتل الصغار تحت مظلة

.. وعقابها.. لكن إخراج الجثث( السابق)ثار تحت مظلة إزالة بقايا الحكم تأمين مستقبل الحكم، ومحو اآل

..أمر جلل.. وحرقها.. وصلبها

إن جاز )وعذبت .. والطريف أن البعض رأى في ذلك معجزة إلهية، فالجثة الوحيدة التي وجدت شبه كاملة

ملك، وقد رأى البعض في ذلك وحرقت ثم نثر رمادها في الريح هي جثة هشام بن عبد ال.. وصلبت( التعبير

انتقاما إلهيا من هشام إذ خرج عليه زيد بن علي بن الحسين، وقتل في المعركة، ودفنه رفاقه في ساقية ماء،

فاستخرجه وبعث برأسه )وجعلوا على قبره التراب والحشيش إلخفائه، فاستدل على مكانه قائد جيش هشام،

ريانا، فصلبه يوسف كذلك، وبنى تحت خشبته عمودا ثم كتب هشام أن اصلبه ع: إلى هشام، فكتب إليه هشام

(.014ص3ج –مروج الذهب للمسعودي ( )إلى يوسف يأمره بإحراقه وذروه في الرياح

وإذا فسرنا ما حدث لهشام باالنتقام وبالجزاء من جنس العمل، فماذا نفسر ما حدث لغيره، وفي أي نص من

سيون ما يبرر فعلتهم، وأين كان الفقهاء والعلماء من ذلك كله، أين أبو كتاب اهلل وسنة رسوله وجد العبا

حنيفة وعمره وقتها قد تجاوز الخمسين، وأين مالك وعمره وقتها قد تجاوز األربعين، ولم الذوا بالصمت ولم

للرسول الذ غيرهم بما هو أكثر من الصمت، أقصد التأييد، والتمجيد، واألشعار، ورواية األحاديث المنسوبة

يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من )والمنذرة بخالفة السفاح ومنها ما أورده ابن حنبل في مسنده مثل

(.الزمان وظهور من الفتن، يقال له السفاح، فيكون إعطاؤه المال حثيا

ولده أن رسول اهلل أعلم العباس عمه أن الخالفة تؤول إلى ولده، فلم يزل )ومثل ما ذكره الطبري من

(.يتوقعون ذلك

أو لعلهم كانوا بقصة مأدبة السفاح، وهي ما أشرنا إليه بالقرار الثاني في خالفته، وهو قرار خليق بأن في

أيامنا هذه في معاهد السينما كنموذج رائع لحبكة اإلخراج، وتسلسل السيناريو وترابطه، ليس هذا فحسب، بل

.في نفس موقع التمثيل ، أي تجربة حية(بروفة)أن القرار قد سبقته

ولن يشك القارئ في أن كل ما حدث كان مرتبا، وأن األقدمين كانوا على دراية واسعة بفن التشويق، وكانوا

أيضا على مقدرة كبيرة في تدبير المفاجأة، ثم تبريرها بحيث تمر طبيعية ومتناسقة ومتسقة مع سياق

ص 9ج –الكامل في التاريخ البن األثير )كرها ابن األثير األحداث، ولنبدأ بالبروفة ولنقرأها معا كما ذ

:على السفاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أكرمه فقال سديف" الشاعر " دخل سديف ( )333

ال يغرنك ما ترى من رجال إن تحت الضلوع داء دويا

أمويا فضع السيف وارفع السوط حتى ال ترى فوق ظهرها

(قتلتني يا شيخ، ودخل السفاح وأخذ سليمان فقتل: فقال سليمان

:ومن قراءة ما ذكره ابن األثير يمكن ترتيب سيناريو األحداث على النحو التالي

السفاح يبالغ في تأمينه وطمأنته بدعوته إلى الطعام، –( نجل خليفة سابق)السفاح يؤمن أحد كبار األمويين

ينطق الشاعر بأبيات تدعو لالنتقام من –عر على السفاح ويبدو دخوله كأنه مفاجأة يدخل شا –وإكرامه

ينفعل الخليفة بقول –قتلتني يا شيخ : يصرخ األموي قائال –األمويين وتستنكر معاملتهم بالرفق واللين

.ينتهي المشهد –الشاعر فيقتل األموي

ا فعله السفاح بعد ذلك وكرر فيه نفس ما حدث في البروفة، واآلن إلى القرار أو الحادثة أو الفيلم الكامل لم

:، ولنقرأ معا ما ذكره ابن األثير(باألمويين)مع إتقان أكثر، وتفنن غير مسبوق في التمثيل

وفي رواية " على عبد اهلل بن علي " وفي رواية أخرى سديف " دخل شبل بن عبد اهلل مولى بني هاشم )

:ن بني أمية نحو تسعين رجال على الطعام فأقبل عليه شبل فقالوعنده م" أخرى على السفاح

أصبح الملك ثابت األساس بالبهاليل من بني العباس

طلبوا وتر هاشم فشفوها بعد ميل من الزمان وباس

ال تقيلن عبد شمس عثارا واقطعن كل رقلة وغراس

وبها منكم كحر المواسي ذلها أظهر التودد منها

..(إلى آخر القصيدة)أنزلوها بحيث أنزلها اهلل بدار الهوان واإلتعاس

فضربوا بالعمد حتى قتلوا وبسط عليهم األنطاع فأكل الطعام عليها وهو ( وقيل أنه السفاح)فأمر بهم عبد اهلل

(.يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا

مين السفاح لألمويين الذين زاد عددهم هذه المرة إلى تسعين، والمأدبة هي نفسها، والرواية السابقة تبدأ بتأ

وما دام المضيف هو الخليفة فالكرم وارد، والطمأنينة ال حد لها، وفجأة يدخل الشاعر، ويستنكر اكرامهم،

...ويدعو للثأر منهم، فيتغير وجه الخليفة، ويقوم إليهم ثائرا، و

ديدا مفزعا، فقد أمر السفاح بضرب رؤوسهم بأعمدة حديدية، بحيث تتلف بعض وهنا نتوقف ألن هنا ج

مراكز المخ، ويبقى الجسد حيا، مصطرعا بين الحياة والموت، وما أن يرى السفاح أمامه تسعين جسدا

منتفضا، تقترب مسرعة من الموت، وترتفع أصواتها باألنين، حتى يأمر بوضع مفارش المائدة فوقهم، ثم

يجلس فوق هذه المفارش، ويأمر بالطعام فيوضع أمامه فوق األجساد، ويبدأ في تناول عشائه بينما البساط

يهمد هنا ويهمد هناك، وبين همود وهمود، يزدرد هو لقمة من هذا الطبق، ولقمة من ذاك، حتى همد البساط

خاصته بالتهنئة، ولعله قال لنفسه، كله، ففرغ من طعامه، وتوجه إلى اهلل بالحمد، وإلى حراسه بالشكر، وإلى

أو لخاصته، واهلل ما أكلت أهنأ وال ألذ وال أطيب من هذا الطعام قط، فليس أقل من هذا الحديث ما يالئم

سلوك السفاح، ذلك الذي يزدرد اللقيمات على زفرات األنين، ويساعده على الهضم صعود األرواح، وقد

مس، أو أن يتخلص بالقتل من منافسيه على الحكم، أو مناوئيه على نفهم أن يقتل الحاكم الجديد حكام األ

السلطة، فقد حدث هذا كثيرا، وأقرب نماذجه مذبحة المماليك بالقلعة على يد محمد علي، لكن ما ال نفهمه،

أن يجلس الخليفة فوق الضحايا، وأن يهنأ له الطعام فوق بركة من الدماء، وعلى بساط يترجرج مع

جساد، وعلى أنغام من صراخ الضحايا حين يواجهون الموت، بل ربما وهم يسعون إليه هربا اصطراع األ

..من األلم والعذاب

نحن هنا أمام تساؤل تطرحه هذه الحادثة، وأمثالها كثير، قبل السفاح وبعد السفاح، ربما ليست بهذه الروعة

لكنها في النهاية تحمل نفس الداللة وتنقل إلينا في اإلخراج، أو الحنكة في التدبير، أو السادية في العبير،

نفس الرسالة، يتساوى في ذلك مقتل حجر بن عدي على يد معاوية أو الحسين على يد يزيد أو ابن الزبير

.على يد هشام( زيد بن علي)على يد الحجاج أو

ل هي إسالمية حقا فنزنها والتساؤل عن كنه الخالفة التي يدعون أنها إسالمية وينادون بعودتها من جديد، ه

بمقياس اإلسالم، فتخرج منه، وتنبوعنه، وينتهي الحوار حولها إلى موجز مفيد، فحواه أنهم ادعوا أنها

، أم أنها كانت حكما استبداديا يتستر برداء (الخالفة)إسالمية فأثبتنا أنها لم تكن، وكفى اهلل المؤمنين شر

حجرا علمانيا حين نوضح لهم الفرق بين استبداد الحكم الديني في الدين، فنثبت عليهم الحجة، ونلقمهم

العصور الوسطى، عصور االستبداد والتعذيب والجبروت، وعلمانية العصر الحديث، عصر الديمقراطية

.وحقوق اإلنسان واحترام اآلدمية

في الحالين، غير أن أحسب أن األمر ال يخرج عن ادعاء من االدعاءين، وأحسب أيضا أن اإلجابة واضحة

ذلك كله يطرح سؤاال أكثر وضوحا، وهو لوضوحه وبساطته ال يحتاج من القارئ إلى جهد أو اجتهاد

:إلجابته

ه ل صحيح أن العلمانية هم غرب ال هم شرق، وأنها مبررة في الغرب باستبداد الحكم بالدين أو باسم الدين،

و مثاال له؟، أحسب أنه لو كان مبرر العلمانية في الغرب هو بينما لم نعرف نحن في الشرق نظيرا لذلك، أ

، سلطان اهلل في (الخليفة)استبداد الحكم في الكنيسة، لكان مبررها في الشرق هو استبداد الحكم في ظل

.أرضه، القاتل لمن يشاء، المانح للعطاء، والمانح للبالء

ح المبيح، فأن رياح بن عثمان والي الخليفة المنصور وإذا كان السفاح قد وصف نفسه على المنبر بأنه السفا

:على المدينة قد وصف نفسه على منبر الرسوم بما هو أنكى حيث قال

(.041ص0ج –اليعقوبي ( )يا أهل المدينة، أنا األفعى ابن األفعى)

االستبداد باسم وإذا تباهى الخلفاء بأنهم سفاحون، وتباهى الوالة بأنهم أوالد األفاعي، أيبقى من يدعي أن

الدين هم غرب، وأن العلمانية كخالص منه فكر غربي وافد ال عالقة له بواقع الشرق وهمومه؟

أحسب أن البعض اآلن يردد بينه وبين نفسه، ها هو يصطاد في الماء العكر، ويتوقف كثيرا عند السفاح حتى

، فليست هناك عالقة بين السفاح وبين ينال مأربه في الطعن في الخالفة اإلسالمية، لكن ردنا عليه يسير

اإلسالم أو الحكم به، فليقل عنه ما يشاء، وليطعن فيه كما يشاء، وليحاور وليداور، فليس في هذا كله غناء،

..فالمسافة بين حكم السفاح والحكم باإلسالم كالمسافة بين األرض، سابع أرض، والسماء، سابع سماء

أن الرد على ذلك من أيسر ما يكون، فلوال اإلسالم، المظهر ال –حظي وحظ القارئ –ولحسن الحظ

الجوهر، والرداء ال المضمون، ما فعل السفاح ما فعل، ال هو وال سابقوه، وال الحقوه، فأي والء كان يربط

المصري مثال بالسفاح في األنبار، أليس هو الوالء لخليفة المسلمين، وللحاكم باسم اإلسالم، وأي دافع لهذا

الوالء، أليس الدافع هو االرتباط باإلسالم، وجيوش األحاديث النبوية التي نسبها الوضاعون للرسول حول

خالفة بني العباس، واجتهادات الفقهاء عن طاعة الخليفة ولو كان غاشما، وفسق الخارج عن الطاعة، وكفر

رواة، وردده الوعاظ، أليس هو مدخل المفارق للجماعة، وأي مدخل ساقه السفاح في خطاب توليته وتناقله ال

(:39 – 30ص 10ج –تاريخ األمم والملوك للطبري )العدل والتقى والعقيدة، أليس هو القائل على المنبر

الحمد هلل الذي اصطفى اإلسالم وشرفه وعظمه واختاره لنا وأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به )

نا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها وخصنا برحم رسول اهلل صلى اهلل والذابين عنه والناصرين له وألزم

إني ألرجو أن ال يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير وال الفساد من حيث جاءكم –عليه وسلم وقرابته

(.الصالح وما توفيقنا أهل البيت إال اهلل

:وألنه كان متوعكا فقد أكمل داود بن علي الخطبة فقال

ذمة اهلل تبارك وتعالى وذمة رسوله صلى اهلل عليه وآله وسلم وذمة العباس رحمه اهلل أن نحكم فيكم بما لكم)

–أنزل اهلل ونعمل فيكم بكتاب اهلل ونسير في العامة منكم والخاصة بسيرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم

هل بيت مصرا وإنكم مصرنا، إال وأنه ما ألزموا طاعتنا وال تخدعوا عن أنفسكم فإن األمر أمركم، فإن لكل أ

خليفة بعد رسول اهلل إال أمير المؤمنين علي وأمير المؤمنين عبد اهلل " يقصد منبر الكوفة " صعد منبركم هذا

فاعملوا أن هذا األمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى " وأشار بيده إلى أبي العباس " بن محمد

(بن مريم

..أنزل اهلل إذن كان وسيلته إلى قلوب الناس وبيعتهم ووالئهمالحكم بما

.السير في العامة والخاصة بسيرة رسول اهلل كان ما عاهد عليه الناس وما بايعه الناس عليه

الحديث المختلق عن خالفة العباسيين حتى يسلموها إلى عيسى بن مريم كان السبيل إلى استسالم الرعية

..ظلم الوالة، بصدق النبوءة المدعاة لقدرها، واالنشغال عن

هكذا بدأ أمر العباسيين، وهكذا يبدأ أي أمر للحكم الديني وتحت نفس الدعاوي البراقة، التي نسمعها كما

.. البركة.. العدل.. تطبيق شرع اهلل.. السير بسيرة رسول اهلل.. الحكم بما أنزل اهلل.. سمعها الكوفيون باألمس

كما رأينا في أول عهد السفاح ثم كما سنرى بعد عهد السفاح، ذلك الذي ال .. مر دائماوهكذا كان ينتهي األ

ينتهي الحديث عنه، إال بذكر سنة استنها، ثم أصبحت قاعدة لمن تاله من خلفاء بني العباس، ونقصد بها عدم

.احترام العهود والمواثيق، والفتك باألنصار قبل المناهضين

واقعتين شهيرتين األولى حين أعطى ابن هبيرة قائد جيوش مروان بن محمد آخر وقد فعل السفاح ذلك في

الخلفاء األمويين، كتابا يحمل إمضاءه ويتعهد له باألمان، ثم قتله بعد أيام من استسالمه، والثانية حين قتل

أبي مسلم وزيره أبا سلمة الخالل أحد مؤسسي الدولة العباسية في الكوفة، وتعمد أن يتم ذلك على يد

الخراساني، المؤسس األول للدولة، حيث ال يعرف تاريخ الدولة العباسية في عهد السفاح فضال إال لرجلين،

أولهما أبو مسلم الذي أسس الدولة في خراسان وسلم الخالفة إلى السفاح، وثانيهما عبد اهلل بن علي عم

فيها على األمويين انتصارا نهائيا، ويقال أن السفاح وقائد جيوش العباسيين في موقعة الزاب التي انتصر

.السفاح كان يسعى لقتل االثنين، وهو ما ال نجد دليال عليه في كتب التاريخ

غير أن أبا جعفر المنصور، ثاني الخلفاء العباسيين، والمؤسس الحقيقي للدولة العباسية، والذي يحتل فيها

يين، قام بذلك الواجب خير قيام، فسلط أوال أبا مسلم الخراساني موقعا مناظرا لموقع معاوية في دولة األمو

استبقني يا أمير : لقتل عبد اهلل بن علي، ثم تولى هو بنفسه قتل أبي مسلم، ولم يشفع له صياح أبي مسلم

وأي عدو لي أعدى منك؟: المؤمنين لعدوك، بل رد عليه

، وأنه كان (كل الخير)للسفاح ثم للمنصور إال وليس للقارئ أن يتعجب حين يعلم أن أبا مسلم لم يفعل

صاحب الفضل األول عليهما وعلى دولتهما، لكن ذلك بالتحديد كان سبب قتل المنصور له، فقد دخل عليه

إنا هلل وإنا إليه راجعون، : نعم، قال: قتلته؟ قال: فقال)فوجد أبا مسلم قتيال، ( عيسى بن موسى)ولي عهده

واهلل ليس لك على وجه األرض عدو أعدى منه، وهل كان ! خلع اهلل قلبك : قال المنصوربعد بالئه وأمانته؟ ف

(لكم ملك في حياته؟

، والتي نوجز في تبرير الوسيلة بالغاية، (ميكيافيلي)هذا نموذج مثالي لما عرف باسم الميكيافيلية، نسبة إلى

ة على يد المنصور، الذي وطأ بأقدامه وتفصل في تطبيق ذلك على شئون الحكم وسيرة الحكام، وتبدو جلي

أعناق الرجال، وتفرد بأسلوبه المميز في الحكم، فهو يبدأ أوال بالتخلص من أصحاب الفضل عليه ثم يتحول

إلى المعارضين وهو ال يعرف إال القتل وسيلة للقضاء على معارضيه، وال يعرف للعواطف سبيال، وال

.تعرف العواطف إليه طريقا

رجل بني )وي لم يحترم إال القوة، ولعل هذا ما يفسر إعجابه بهشام بن عبد الملك، ووصفه له بأنه وألنه ق

، ثم إعجابه الشديد بعبد الرحمن بن معاوية بن هشام، والخليفة األموي في األندلس، وعلى الرغم من (أمية

ه، ولم تمنعه من محاولة هزيمة جيشه على يديه في أشبيليه، بل ربما يسبب هذه الهزيمة التي لم تردع

اقتحم جزيرة شاسعة المحل، نائية المطمع، عصبية الجند، ضرب بين : ).. استمالته بالهدايا، ووصفه قائال

إن ذلك لهو الفتى الذي ال يكذب .. جندها بخصوصيته، وقمع ببعض قوة حيلته، واستمال قلوب رعيتها

(.مادحه

من بصقر قريش، ولما فشل في استمالته بالتودد أظهر وجها بل يقال أن المنصور هو الذي سمى عبد الرح

آخر ألسلوبه السياسي، وهو الوجه الذي أظهره تشرشل في الحرب العالمية الثانية عندما أعلن أنه مستعد

( ببين)ثم مع ( شارلمان)للتحالف مع الشيطان لهزيمة النازية، وهو نفس ما فعل أبو جعفر، حين تحالف مع

ة، ضد عبد الرحمن الخليفة األموي المسلم، وهو التحالف الذي فشل في هزيمة عبد الرحمن ، ملكي الفرنج

:ونجح في ذات الوقت في اقرار القاعدة المنصورية

وتنتصر على .. المهم أن تصل إلى غايتك.. تحالف مع أعدى األعداء.. اسلك أي سبيل.. افعل أي شيء

ل عن أحكام القرآن، وتجاهل السنة، وابتعد بقدر ما تستطيع عن عدوك، وخالل ذلك كله انس اإلسالم، وتغاف

( وصف المنصور لنفسه في خطبة شهيرة بالمدينة( )سلطان اهلل في أرضه)سيرة الراشدين، وتذكر فقط أنك

، (التعبير األدبي الشائع عند وصف الخلفاء في العصر العباسي األول( )وظل اهلل الممدود بينه وبين خلقه)

.في حكمك إلى حق بني العباس في الخالفة، وليس إلى حق الرعية في اإلختيارواستند

ولعل هذا المنهج هو ما قاد العلويين إلى مناهضة المنصور، فما دام النسب هو الفيصل، فهم أقرب إلى

الحكم، وأحق بالخالفة، وقد دار حوار طريف بين المنصور من ناحية، ومحمد العلوي المشهور باسم

وأخيه إبراهيم من ناحية أخرى، ومبعث الطرافة أن الحوار كله يدور حول إثبات أحقية ( س الزكيةالنف)

النفس )الخالفة بالنسب، مع تجاهل كامل لما يسمى بالشعب، أو ما كان يطلق عليه وقتها اسم الرعية، فمحمد

سول، وأنهما بهذا ولهذا أحق، وأخوه إبراهيم، يريان أنهما من نسل علي وفاطمة، وأنهما حفيدا الر( الزكية

أرى أنها –بعد استئذان القارئ –والمنصور يرى أن العم أقرب من ابن العم، وأنه بذاك ولذاك أحق، وأنا

: مأساة أن أبايع حاكما لمجرد أنه من نسل علي، أو أناصر حاكما آخر ألنه من نسل العباس، وأتجاوز فأقول

ما بايعت حفيدا من أحفاده لمجرد انتسابه إليه، فالنبوة ال تورث، أنه لو عاش للرسول من نسله ذكور،

عمل )نبيا، وأن يكون ابنه في ذات الوقت ( نوح)والصالح ال ينتقل بالضرورة لألبناء، وال مانع أن يكون

(.غير صالح

لى عرض غير أن الطريف في حوار المنصور والنفس الزكية، أنه انتقل إلى الغمز، فالنفس الزكية يرد ع

أي األمانات تعطيني؟ أمان ابن هبيرة؟ أم أمان عمك عبد اهلل بن )المنصور باألمان بغمزة موجعة حين يذكر

ثم كان : )قائال" جد النفس الزكية " ، فيرد عليه المنصور غامزا في الحسن (علي؟ أم أمان أبي مسلم؟

(.ه بيد معاوية، ودفع األمر إلى غير أهلهالحسن فباعها معاوية بخرق ودارهم، ولحق بالحجاز وأسلم شيعت

والمنصور يشير إلى مبايعة الحسن لمعاوية أو بمعنى أدق إلى الصلح بينهما، ذلك الصلح الذي أثار مشكلة

وفي . في تلك األيام، فقد أرسل الحسن إلى معاوية يصالحه على شروط مالية( وسائل االتصال)بسبب بطء

ل إلى الحسن صحيفة بيضاء ختم أسفلها وترك للحسن أن يشترط فيها ما نفس الوقت كان معاوية قد ارس

يشاء، ووصلت الرسالتان في وقت واحد، وطمع الحسن فكتب في صحيفة معاوية شروطا جديدة طلب فيها

أضعاف ما طلب في رسالته، وعندما التقيا تمسك معاوية بخطاب الحسن وتمسك الحسن بخطاب معاوية ثم

– 101ص – 9تاريخ األمم والملوك للطبري، ج)ة ماليين هي أموال بيت مال الكوفة تصالحا على خمس

104.)

ولسنا في مجال تقييم فعل الحسن، وحسبنا أن نذكر أنه استراح وأراح، أراح المسلمين من القتال، وأراح

كتب إلى معاوية الذي ما أن علم بالذي يريد الحسن عليه السالم أن يأخذه لنفسه حتى )عبد اهلل بن عباس

(.يسأله األمان ويشترط لنفسه على األموال التي أصابها فشرط ذلك له معاوية

وسوف يهنأ ابن عباس بما حصل عليه من مال البصيرة حتى نهاية حياته، فقد قتل علي وتنازل الحسن

السم له وسمح معاوية، وسوف يهنأ أيضا الحسن بمال الكوفة حتى حين، فسوف يتخلص منه معاوية بدس

حين يرشح يزيدا لخالفته، ونعود إلى المنصور، الذي لم يتحمل محاورة محمد طويال، فقبض على أبيه

وعمومته وكثير من أهله وحبسهم معذبين حتى الموت، وهاجم محمدا بالمدينة وقاتله حتى قتله، ثم هاجم

ذكر أن )كله مدافعا إال عن الملك، فقد أخاه إبراهيم في البصرة وقاتله حتى قتله ولم يكن المنصور في ذلك

مروج ( )أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأشباهه: المنصور هيئت له عجة من مخ وسكر فاستطابها، فقال

(.364ص 3ج –الذهب للمسعودي

، وإن (العجة)، وأن الطرف اآلخر كان يدافع عن (النسب)والشاهد هنا أن أحد الطرفين كان يدافع عن

في الفريقين كانوا يعتقدون أنهم يدافعون عن صحيح اإلسالم، دليلنا على ذلك ما حفلت به خطب المسلمين

الفريقين من آيات وأحاديث ووعد بالجنان ووعيد بسقر، ولم يكن األمر عسيرا بالنسبة لمحمد وإبراهيم فآيات

الرسول، وفضائل علي، ولم الحكم بما أنزل اهلل موجودة وما أيسر أن ينتقل منها إلى الحديث عن شمائل

يكن األمر عسيرا أيضا على المنصور، فما أكثر األحاديث عن شق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة، وما

أيسر االستشهاد بآيات اإلفساد في األرض، فقد روي عن المنصور أنه عندما تسلم كتاب انتصار جيشه على

:إبراهيم، تال هذه اآلية

والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها اهلل، ويسعون في األرض والقينا بينهم العداوة)

السعيد من وعظ بغيره، اللهم ال تكلنا إلى خلقك : ثم صعد إلى المنبر وقال(. فسادا، واهلل ال يحب المفسدين

.فنضيع وال إلى أنفسنا فنعجز، فال تكلنا إال إليك

ر أنفسهم بأن اهلل نصر الحق بهم، وسيجزي اهلل الشاكرين، وأقنع من تبقوا وهكذا أقنع أفراد جيش المنصو

من جيش محمد وإبراهيم أنفسهم بأنه اختبار من اهلل، وبالء إلى حين، وسيجزي اهلل الصابرين، وانطلق كل

شهودا لفقيه، أو فريق قانعا بما اعتقد أنه جزاؤه من عند اهلل، ولم تنقل لنا كتب التاريخ خالل ذلك كله موقفا م

دفاعا طليا عن الحق من إمام من أئمة المسلمين، وما أكثرهم في عهد المنصور، فقد عاصره أبو حنيفة،

ومالك، واألوزاعي، وعمرو بن عبيد، وسفيان الثوري، وعباد بن كثير، وجعفر بن محمد الصادق،

سم له في النهاية إال لرفضه والية وغيرهم، وما كان تعذيب المنصور ألبي حنيفة وحبسه وجلده ودس ال

القضاء، وما كان جلد المنصور لمالك وهو عاري الجسد غير مستور العورة تشهيرا به إال لذكره حديثا عن

الرسول لم يعجبه، وكال الموقفين ال يصلحان نموذجا للجهاد، أو مثاال على مناوأة الحاكم إن حاد، أو دليال

..ل، وينصر بالرجال، وينبري للدفاع عنه الرجالعلى أن الحق يعرف بالرجا

وال بأس أن ننهي حديث المنصور، بحديث ابن المقفع الذي أرسل للمنصور كتابا صغير الحجم، عظيم

نصح فيه الخليفة بحسن اختيار معاونيه، وحسن سياسة الرعية، وكان في ( رسالة الصحابة)القيمة أسماه

غاية الرقة، ولعله كان ينتظر من المنصور تقديرا أدبيا وماديا يليق بجهده، نصحه رفيقا كل الرفق، رقيقا

ولعله لم يتصور أن مجرد إسداء النصح للمنصور جريمة، وأن غاية دور األديب في رأي المنصور أن

ل يمدح، ومنتهى دور المفكر أن يؤيد، وأن عقاب من يتجاوز دوره كما فعل ابن المقفع، أن يفعل به كما فع

بابن المقفع، الذي قطعت أطرافه قطعة قطعة، وشويت على النار أمام عينيه، وأطعم إياها مجبرا، قطعة

قطعة، حتى أكرمه اهلل بالموت في النهاية ولعله تساءل وهو يمضغ جسده بأمر أمير المؤمنين، أي أمير وأي

، ويتغنون بالشورى، ويهاجمون الحكام مؤمنين، ولعله أدرك ساعتها ما نتمنى أن يدركه من يتنادون بالخالفة

ويتصورون في الدولة الدينية مالذا، وفي الحكم باسم اإلسالم موئال ورحمة، وفي التطبيق ( العلمانيين)

الفوري للشريعة وحدها عدال واستقامة، وفي الديموقراطية جورا وحكما بالهوى، ولعلنا نذكرهم أن

لجبروت إال أنه تركه من باب رجال الدولة العظماء، وهو إن جار المنصور وإن دخل التاريخ من باب ا

فبفتوى البعض من الفقهاء، وخوف البعض وصمت البعض اآلخر، وهو إن قسا فبهدف بناء هيبة الدولة،

وأركان الحكم بمقاييس عصره، وهو إن أسال الدماء أنهارا، فقد بنى بغداد والرصافة وحمى ثغور الدولة

:عاد التماسك إلى بنيانها، وكانت حكمته البليغة نصب عينيهاإلسالمية، وأ

".إذا مد عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك، وإال فقبلها "

وقد كان الرجل من القوة بحيث لم يـقبـل يد أحد، وأورث ولده المهدي رعية مطيعة، وثغورا منيعة، وأورثها

رثها هارون الرشيد ألوالده الثالثة األمين فالمأمون المهدي إلى ولديه الهادي ثم هارون الرشيد وأو

فالمعتصم وأورثها المعتصم لولده الواثق، وبحكم الواثق انتهى ما يعرف بالعصر العباسي األول، أكثر

وإذا أردنا استكمال ( وفقها وطهارة)عصور الدولة اإلسالمية نهضة وحضارة، وإذا توخينا الصدق لزدنا

ومجونا، وليس فيما ذكرناه مبالغة أو سعي وراء سجع الكلمات أو طنطنة الروي، الصورة ألضفنا وفسقا

وإنما هي الحقيقة ال أقل وال أكثر، فقد اجتمع كل ذلك معا، ففي النهضة والحضارة يزهو عصر المأمون

: يينويتألق فكر المعتزلة، وتزدهر الترجمات ويكفي أن نذكر في العصر العباسي األول من أسماء اللغو

:سيبويه والكسائي ومن أسماء األدباء والمؤرخين والشعراء

حماد الراوية والخليل بن أحمد، والعباس بن االحنف، وبشار بن برد، وأبو نواس، وأبو العتاهية، وأبو تمام،

.والواقدي واألصمعي، والفراء وغيرهم

نبل، واألوزاعي، والليث بن سعد، أبو حنيفة ومالك، والشافعي، وابن ح: أما في الفقه والطهارة فهناك

، والزهري، وإبراهيم بن (الحنفي)وأسد الكوفي ( الحنفي)وسفيان الثوري، وعمرو بن عبيد، وأبو يوسف

أدهم الزاهد، ونافع القارئ، وورش القارئ، وأبو معاوية الضرير، وسفيان بن عيينة، ومعروف الكرخي

ن نصر الخزاعي، وغيرهم، أما الفسق والمجون فأبوابهما الزاهد، وعلي الرضي بن موسى الكاظم، وأحمد ب

كثيرة، وفنونهما شتى، وهناك في البداية ما يمكن أن نسميه بالمناخ العام، وهو اإلطار الذي يسمح بالفسق،

وال يستنكف المجون أو ما هو أكثر، فقد أمتألت عاصمة الخالفة بالحانات، وانتشر شرب الخمور والغناء

عية، ووجد الجميع مخرجا طريفا لما يفعلون، فقد اشتهر عن فقهاء الحجاز إباحة الغناء، في مجالس الر

واشتهر عن فقهاء العراق من أتباع أبي حنيفة إباحة الشراب، فجمعوا بين فتوى الفريقين، ولخصوا مذهبهم

:في قول الشاعر

رأيه في السماع رأي حجازي وفي الشراب رأي أهل العراق

:قول ابن الرومي أو في

أباح العراقي النبيذ وشربه وقال حرامان المدامة والسكر

الشرابان واحد فحل لنا من بين قوليهما الخمر: وقال الحجازي

سآخذ من قوليهما طرفيهما وأشربها ال فارق الوازر الوزر

با حنيفة قد أباح أنواعا من الخمور، بل ولعل بعض القراء يندهشون، وربما يسمعون للمرة األولى أن أ

ولعلي أصارحهم بأن فتوى أبي حنيفة قد أجابت على سؤال حائر كان يدور في داخلي وأنا أقرأ عن الشراب

هل وصل بهم التحلل من قيود الدين، والخروج على قواعد اإلسالم، أن : والمنادمة في مجالس الخلفاء

ون أدنى قدر من الحفاظ على المظاهر أمام الرعية؟يجاهروا بشرب الخمر في مجالسهم، د

ولعل فيما عرضه األستاذ أحمد أمين في كتابه ضحى اإلسالم عن خالف الفقهاء حول الخمر ورأي أبي

: حنيفة فيها ما يوضح األمر للقارئ

اآلية السابقة بما ذهب األئمة الثالثة مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى سد الباب بتاتا، ففسروا الخمر في)

يشمل جميع األنبذة المسكرة من نبيذ التمر والزبيب والشعير والذرة والعسل وغيرها وقالوا كلها تسمى خمرا

وكلها محرمة، أما اإلمام أبو حنيفة ففسر الخمر في اآلية بعصير العنب مستندا إلى المعنى اللغوي لكلمة

تحليل بعض أنواع من األنبذة كنبيذ التمر والزبيب إن طبخ الخمر وأحاديث أخرى، وأدى به اجتهاده إلى

وهو أن يأخذ قدرا من تمر ومثله من زبيب " الخليطين " أدنى طبخ وشرب منه قدر ال يسكر، وكنوع يسمى

ويظهر . فيضعهما في إناء ثم يصب عليهما الماء ويتركهما زمنا، وكذلك نبيذ العسل والتين، والبر والعسل

حنيفة في هذا كان يتبع الصحابي الجليل عبد اهلل بن مسعود، فقد علمت من قبل أن ابن مسعود كان اإلمام أبا

إمام مدرسة العراق، وعلمت مقدار االرتباط بين فقه ابي حنيفة وابن مسعود، ودليلنا على ذلك ما رواه

، وشهرت وأذيعت كان يرى حل النبيذ، حتى كثرت الروايات عنه: صاحب العقد عن ابن مسعود من أنه

:واتبعه عامة التابعين من الكوفيين وجعلوه أعظم حججهم، وقال في ذلك شاعرهم

من ذا يحرم ماء المزن خالطه في جوف خابية ماء العناقيد؟

(إني ألكره تشديد الرواة لنافيه، ويعجبني قول ابن مسعود

والشراب وما يرتبط بينهما من لهو وقيان كان ما سبق هو المناخ العام أو األرضية الممهدة للغناء

وغلمان، أما اللهو فسمة العصر، وأما القيان ففارسهم المهدي وولده الرشيد، وأما الغلمان ففتاهم الواثق،

وسوف يأتي حديث كل منهم في موضعه، غير إنا نتوقف قليال أمام فتاوى الخمر السابقة متأملين، متعجبين

.من تشدد المعاصرين

بعض منهم يصر على أن عقوبة الخمر أحد الحدود، وهو في ظني يتجاوز الحقيقة بحسن النية، واألرجح فال

في تقديرنا أنها عقوبة تعزيرية، نشترك في هذا مع رأي الشيخ محمود شلتوت وغيره، ومن الواضح في

لقليل من أكثر أنواع فتوى أبي حنيفة، ومذهب ابن مسعود، أن العقوبة قاصرة على السكر البين، أما شرب ا

إلى غير .... الخمور فال عقوبة عليه، وهنا يبدو منطقيا أن تسقط عقوبة البائع والمشتري والناقل والصانع

ذلك مما اجتهد بشأنه المتشددون وساقوا عليه األدلة واألحاديث، وال بأس ما دمنا نتحدث عن المتشددين أن

قوبة وهو الجلد ثمانين، وهم في ذلك يستندون إلى قياس لعلي نذكر إصرارهم على األخذ بالحد األقصى للع

:ابن أبي طالب حين سأله عمر المشورة فقال

من سكر فقد هذى، ومن هذى فقد افترى وحده ثمانون، ومعنى هذا أن عليا افترض أن من يسكر يفقد عقله

ذف أي ثمانين جلدة، والغريب وأن من يفقد عقله يسهل عليه قذف اآلخرين، ومن هنا يمكن أن يجلد حد الق

أننا لم نناقش هذا القياس أو نراجعه، وشاع التسليم به وكأنه تنزيل من التنزيل، بينما هو في تقديرنا قياس

أقل ما يوصف به أنه غير دقيق، فما أيسر أن نسوق على منواله أكثر من قياس وأكثر من عقوبة، دون أن

.ضوا علينايملك من سلموا بالقياس األول أن يعتر

من سكر فقد صوابه، ومن فقد صوابه زنى، أو قتل، أو سرق، وحده الرجم، أو القتل، أو القطع، : فمثال نقول

من سكر فقد صوابه، ومن فقد صوابه فال عقاب عليه فيما فعل، ويسقط القياس : بل نستطيع أن نقول

.واالستدالل من أساسه

تصور، أن السابقين كانوا أكثر تسامحا، ربما ألن الحياة كانت ولعل أغرب ما الحظناه، على عكس ما كنا ن

معطاءة، وكان اتساع أبواب االجتهاد أحد عطاياها، وقد سقنا في األمور المشتبهات رخصة التنقل بين فقه

الحجاز وفقه العراق، ونسوق أيضا ما كان منتشرا حتى عهد أجدادنا القريب، وهو تعدد الزوجات، الذي لم

ه الدين فقط، بل يسرته أيضا سبل الحياة، وتوسع البعض فيه مثل الحسن بن علي، الذي ذكر أنه تزوج ييسر

سبعين وقيل تسعين، وأنه كان يتزوج أربعا ويطلق أربعا، والذي خشي اإلمام علي من أن يفسد عليه القبائل

تاريخ الخلفاء )فأنه رجل مطالق يا أهل الكوفة ال تزوجوا الحسن : بطالق بناتها، فكان يبادرهم صائحا

(.141للسيوطي

ولم يسمع أحد كالمه، فقد طمع الكل أو تطلع إلى نسل ينتسب للرسول، وبجانب ذلك كان هناك بابان للتمتع

بالحياة، والحياة في المتع، باب منهما لم يختلف أحد عليه، وإن جهله بعض المعاصرين أو صعب عليهم

.يزال يثير كثيرا من الخالف تصوره، وباب آخر أثار وال

أما الباب األول فهو التسري بالجواري، وهو جانب من جوانب نظام الرقيق، الذي ظهر اإلسالم وهو جزء

من إطار الحياة، فلم ينكره أو يدنه، وإنما حث على العتق، وهو باب من أبواب الخير عظيم، وجانب ذو

جدها اليوم متناسقة مع عالم المساواة بين الجميع، ومتناغمة شأن جليل من جوانب روح اإلسالم، تلك التي ن

مع إلغاء الرقيق عالميا، بينما لو توقفنا عند ظاهر النص ألنكرنا المساواة، والستنكرنا اإللغاء، وألننا من

أنصار الروح والجوهر، فإننا نفسر موقف اإلسالم من الرق بما نكرره ونعيده دون أن نمل، وهو أن الدين

م ينزل من أجل عصر واحد، وأن القرآن لم يتنزل لكي يناسب زمنا معينا، وإنما نزل الدين وتنزل القرآن ل

لكل عصر ولكل زمان، وهو وإن سمح بالرق فقد تسامح مشجعا العتق، ومال إلى الحرية، ولم يكن له أن

بالجارية األنثى، وأن يضيق بعصر أو يتوقف عند زمن، وهو في سماحه بالرق أباح للمالك أن يتمتع

.وراعى أن ينسب األبناء آلبائهم في الفراش( أي يعاشرها)يتسرى بها

وكان للجواري مصدران، أولهما الشراء، وثانيهما غنائم الفتح، وقد اتسع المصدر الثاني في صدر الدولة

ت والحبشيات، وكثر اإلسالمية، وتعددت موارده، فظهرت الجواري المولدات، الحور، الروميات والفارسيا

كثيرا، حتى أصبح معتادا في كتب التاريخ اإلسالمي أن ( الطلب)بلغة حياتنا المعاصرة، وتجاوز ( العرض)

وهو أحد أكثر الخلفاء ( علي)نقرأ أن فالنا أهدى لغالمه جارية أو جاريتين، وحتى ذكر المؤرخون أن اإلمام

9البداية والنهاية البن كثير م( )رضي اهلل عنه مات عن أربع نسوة وتسع عشرة سرية)زهدا قد

(.150تاريخ الخلفاء للسيوطي ص. 099ص5ج

وقد زاد هذا الرقم حتى أصبح بالعشرات في عهد أوائل خلفاء بني أمية، ثم بالمئات في عهد يزيج بن عبد

كما ذكرنا في حديث الملك، ثم باآلالف في عهد الخلفاء العباسيين، حتى وصل الرقم إلى أربعة آالف سرية

خالل خالفته التي دامت نحو ربع قرن، وهو رقم قياسي فيما نعتقد، ويستطيع ( وطئ الجميع)المتوكل، الذي

البن قيم ( أخبار النساء)لألصفهاني وفي ( األغاني)القارئ أن يجد مزيدا من الحديث عن هذا الباب في

ألبي حيان التوحيدي، وفي أقوال كثير من ( لمؤانسةاإلمتاع وا)البن حزم و ( طوق الحمامة)الجوزية، و

من أراد أن يتخذ جارية للتلذذ فليتخذها بربرية، ومن أراد )الخلفاء التي نذكر منها قول عبد الملك بن مروان

تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ( )أن يتخذها للولد فليتخذها فارسية، ومن أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذه رومية

001)

منهج غربي معاصر، ولعلنا به أيضا ( التخصص)ل هذا القول كاف إلفحام من يتصورون أن منهج ولع

ننهي حديث الباب األول من البابين اللذين أشرنا إليهما، وهو الباب الذي وصفناه بأنه متفق عليه بال خوف،

ألوالد، وهي خطوة في طريق ومباح بال شبهة، وإن كنا نلمح ظاهرة إيجابية تتمثل في عتق الخلفاء ألمهات ا

.طويل انتهى بإنهاء الرق واستنكاره دون حرج ديني ودون خروج على روح الدين وجوهره كما ذكرنا

أما الباب الثاني المختلف عليه، فهو ما عرف بزواج المتعة، ذلك الذي أباحه الرسول في غزوتين، ثم حرمه

في ظروف الغزو، وكان ( الضرورة القصوى)ليه اسم في حجة الوداع، وكانت إباحته لما يمكن أن يطلق ع

.تحريمه لكونه إذا أبيح بإطالق كان أقرب للزنا منه للزواج

( في زمن خيبر وفي عام الفتح)وهنا نتوقف قليال حتى ال يحدث للقارئ لبس، فإباحته للضرورة في واقعتين

عليه، ووصفه باقترابه من الزنا أكثر من أمر لم يختلف عليه أحد، وتحريمه في حجة الوداع أيضا ال خالف

إن رسول اهلل صلى اهلل : -قال ـ فيما أخرجه عنه ابن ماجة بإسناد صحيح )كونه زواجا رأي ابن عمر حين

" أذن لنا في المتعة ثالثا ثم حرمها، واهلل ال أعلم أحدا تمتع وهو محصن إال رجمته بالحجارة " عليه وسلم

(.سيد سابقالشيخ –فقه السنة )

لوال تحريم المتعة ما زنى إال شقي، وفيما نقله البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن : وفي قول علي

(.93ص –فقه السنة )هي الزنا بعينه : المتعة فقال

أما الحل للضرورة فهو منهج شرعي مقبول شريطة أن يكون تقدير الضرورة صحيحا، وليس أكثر من

.قدير أو صوابا في الحكم فهو الذي ال ينطق عن الهوىالرسول قدرة على الت

يوما أو أسبوعا أو )وزواج المتعة باختصار شديد هو أن يعقد الرجل على المرأة لزمن محدد يتمتع فيه بها

وذاك لقاء مبلغ معين من المال، وبمجرد انتهاء األجل ينتهي العقد تلقائيا، وفقهاء السنة جميعا ..( شهرا

:ن على تحريمه تحريما قاطعا مستندين إلى حديث الرسول في حجة الوداعيجمعو

–فقه السنة ( )يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في االستمتاع، أال وإن اهلل قد حرمها إلى يوم القيامة)

(.90ص

بهة ناتجة ـ على استبعاد عقوبة الرجم لوجود ش( رغم وصفهم لهذا الزواج بالزنا)ويجمع أغلب فقهاء السنة

عما روي عن بعض الصحابة وبعض التابعين أن زواج المتعة حالل، واشتهر ذلك من ابن عباس رضي )

غير أن األمر قد اختلف بالنسبة ألغلب فقهاء الشيعة حين أباحوه، وفسروا نصا قرآنيا بما يفيد ( اهلل عنه

السنة برأي آخر في تفسير النص، وبمناقشات اإلباحة، ونفوا أن تكون السنة ناسخة للقرآن، ورد عليهم فقهاء

مستفيضة عن جواز نسخ السنة ألحكام القرآن مستدلين بحكم الرسول بالرجم في الزنا بينما النص القرآني ال

يتجاوز الجلد ولم يرد حكم الرجم في القرآن على اإلطالق، وهي قضية خالفية أخرى ال نريد أن نشغل

أن يحلق معنا في سماء التخيل لهذا المجتمع، ونقصد به المجتمع اإلسالمي في القارئ بها، وإن كنا نناشده

صدر الدعوة ولعدة مئات تالية من السنوات، حيث تعدد الزوجات هو القاعدة، والطالق يسير والزواج

الجديد أيسر، والبعض يقنع بالزوجات األربع وال يطلق منهن إال نادرا وللضرورة، والبعض اآلخر يطلق

أربعا ليتزوج أربعا دون أن يكون ذلك مدعاة لنقد، أو سببا النتقاد، والجميع يتسرى ومنهم الزاهد القانع

وورعه ونزوعه عن الدنيا واستعالؤه عن مغرياتها ال يحتاج إلى سند وال يعوزه ( علي)بتسعة عشر، وزهد

.دليل

قطاع كبير من المسلمين هم الشيعة ومنهم من يصل بالرقم إلى خانات العشرات والمئات واآلالف، و

يضيفون إلى ذلك حل زواج المتعة ذلك الذي يبيح للمسلم إن أعجبته امرأة أن يتزوجها يوما أو شهرا أو

بعض شهر، وينفحها مقابل ذلك مبلغا من المال ثم يفارقها دون إحساس بذنب أو تأنيب لضمير، هذا كله في

.ة لدى السنة، أو أوردناه لدى الشيعةإطار الحالل إن جاوزنا زواج المتع

بينما تمتلئ كتب التاريخ عن أواخر العصر األموي وأغلب العصر العباسي بأحاديث المغنيات والقيان

والغلمان، وهو ما نطرحه جانبا مقتصرين على الحالل، متسائلين في هدوء هل هناك ضرورة للزنا في مثل

في مثل هذا المناخ أن العقاب بالرجم فيه قسوة؟ هذا المجتمع؟، وهل يعقل أن يدعي أحد

ال شك أن القارئ سوف يتفق معي، وسوف يؤيدني في أن من يأتي الزنا بعد هذا كله، ورغم هذا كله وفي

ظل هذا كله، مختل العقل بال شك، شاذ الطبيعة بال مراء، وربما أنصفناه فتصورناه ساعيا لالنتحار، غير أن

و انتحاره لن يصل به إلى حتفه بسهولة أو في يسر، فدون ذلك من الشروط ما يكاد يصل اختالله أو شذوذه أ

وال تقبل شهادة النساء )بعقوبة الزنا إلى الوصف باالستحالة، فالبد من توافر أربعة شهود عدول من الرجال

الفراش، بل إن شئت ، وأن يشاهد هؤالء فعل الزنا بما ال يتيسر إال لمشارك للزناة في (وال شهادة الفسقة

كالميل في المكحلة )حتى يشاهد عملية الزنا نفسها ( قصير النظر)الدقة في الغطاء، مع تحرز آخر بأن يكون

(.في البئر" الحبل " والرشاء

ولو شهد ثالثة منهم وشهد الرابع بخالف شهادتهم أو رجع أحدهم عن شهادته أقيم على الشهود حد القذف

هو السبب في أننا نعثر في قراءتنا لكتب التاريخ على إشارة ولو من بعيد إلى تطبيق وهو الجلد، ولعل هذا

لحد الرجم، بل إن المرة الوحيدة التي كاد يطبق فيها الحد في عهد عمر، انتهت، بجلد الشهود، على الرغم

ية، والقصة من تيقن القارئ، بل وربما تيقن عمر نفسه من الفعل، بدليل عقاب الفاعل بنزعه عن الوال

تستحق أن تروى، لطرافة أحداثها، ولكونها في ذات الوقت نموذجا يثبت أن البشر هم البشر في كل عصر،

وأن عهد عمر نفسه لم يخل مما لو حدث اليوم لوصفناه بالكارثة، والرتفعت األصوات في كل واد

عليه في عالم اليوم أحد الوزراء أو باستنكاره، ألن الواقعة مست أحد والة األمصار، وهو ما يمكن أن يقاس

.على وجه الدقة أحد نواب رئيس الوزراء

وحدث منه أو قيل عنه ما ( هجرية 15سنة )واليا على البصرة في عهد عمر ( المغيرة بن شعبة)فقد كان

(:156 – 103ص3ج –تاريخ الطبري )يروي الطبري في تاريخه على النحو التالي

مد والمهلب وطلحة وعمرو بإسنادهم قالوا كان الذي حدث بين أبي بكرة عن شعيب عن سيف عن مح)

والمغيرة ابن شعبة أن المغيرة كان يناغيه وكان أبي بكرة ينافره عند كل ما يكون منه وكانا بالبصرة وكانا

متجاورين بينهما طريق وكانا في مشربتين متقابلتين لهما في داريهما، في كل واحدة منهم كوة مقابلة

األخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته فهبت ريح ففتحت باب الكوة فقام أبو بكرة ليصفقه،

فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر قوموا فانظروا، فقاموا

وكانت أم جميل إحدى بني عامر بن فنظروا ثم قال اشهدوا قالوا ومن هذه، قال أم جميل ابنة األفقم،

، وكانت غاشية للمغيرة وتغشى األمراء (كذا في األصل والمقصود إحدى نساء بني عامر)صعصعة

واألشراف، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها، فقالوا إنما رأينا أعجازا وال ندري ما الوجه، ثم أنهم

ة حال أبو بكرة بينه وبين الصالة، وقال ال تـصل بنا، صمموا حين قامت، فلما خرج المغيرة إلى الصال

فكتبوا إلى عمر بذلك، وتكاتبوا فبعث عمر إلى أبي موسى فقال يا أبا موسى إني مستعملك، إني أبعثك إلى

، ثم خرج أبو موسى …أرض قد باض بها الشيطان وفرخ، فالزم ما تعرف، وال تستبدل فيستبدل اهلل بك،

لمربد، وبلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال واهلل ما جاء أبو موسى زائرا وال فيهم حتى أناخ با

تاجرا ولكنه جاء أميرا، فإنهم لفي ذلك إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم فدفع إليه أبو موسى كتابا من

وأمر، عمر، وإنه ألوجز كتاب كتب به أحد من الناس، أربع كلم عزل فيها وعاتب واستحث

".أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميرا، فسلم ما في يدك، والعجل "

أما بعد فإني قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم، ليأخذ لضعيفكم من قويكم، وليقاتل : " وكتب إلى أهل البصرة

".طرقكم بكم عدوك، وليدفع عن ذمتكم، وليحصي لكم فيأكم ثم ليقسمه بينكم، ولينقي لكم

وأهدي له المغيرة وليدة من مولدات الطائف تدعي عقيلة وقال إني قد رضيتها لك وكانت فارهة، وارتحل

المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجلي حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم وبين

أو مستدبرهم، وكيف رأوا المرأة أو سل هؤالء األعبد كيف رأوني، مستقبلهم " المغيرة، فقال المغيرة

عرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر، أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلى في منزلي، على

.امرأتي، واهلل ما أتيت إال امرأتي، وكانت شبهها

حله، قال كيف فبدأ بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المك"

.رأيتهما، قال مستدبرهما، قال فكيف استثبت رأسها، قال تحاملت

، (ينفرد الطبري بذكر هذا االختالف)ثم دعا بشبل بن معبد فشهد بمثل ذلك، فقال استدبرهما أو استقبلتهما

مرأة، فرأيت وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم، قال رأيته جالسا بين رجلي ا

قدمين مخضوبتين تخفقان، وإستين مكشوفتين، وسمعت حفزانا شديدا، قال هل رأيت كالميل في المكحله قال

.ال، قال فهل تعرف المرأة قال ال، ولكن أشبهها، قال فتـنـح

واهلل تمت اسكت، اسكت اهلل نأمتك، أما: وأمر بالثالثة فجلدوا الحد، فقال المغيرة اشفني من األعبد، فقال

(.في رواية أخرى بأحجار أحد( )الشهادة لرجمتك بأحجارك

والرواية السابقة تقدم نموذجا رائعا ودقيقا لمذكرة اتهام تفصيلية، يبدو فيها سبب توافر الشهود مقنعا، وهو

زنا سبب فرضته ظروف البناء في عصر عمر، ويبدو فيه موقف المغيرة ضعيفا، ويبدو فيه وصف واقعة ال

كانت شائعة لدى علية القوم، ويبدو فيه أيضا أن الحد كان على ( أم جميل)مثيرا، ويبدو فيه أيضا أن ظاهرة

وشك أن يقام لوال أن زيادا في اللحظة األخيرة تلجلج في جزئية أو رثت شبهة حين قال أنه لم يتحقق من

.وجهها وإن كانت تشبهها

طريفة وهي أن المغيرة بعد ذلك كان أحد قادة معاوية، وأن زيادا بعد ذلك ولنا أن نذكر للقارئ هنا معلومة

كان أحد قادة علي، وأنه لما توطد األمر لمعاوية، تذكر المغيرة فضل زياد عليه حين تلجلج في الشهادة،

، وذكر فتوسط له لدى معاوية، الذي قبل الوساطة فنسبه إلى أبي سفيان وواله البصرة، ثم أضاف إليه الكوفة

عنه التاريخ بعد ذلك ما ذكر، من قسوة وبطش وإرهاب، ونعود إلى حديث المغيرة أو حادثته، ونتساءل،

ماذا يقول المتطرفون لو حدث من أحد نواب رئيس الوزراء أو الوزراء أو المحافظين ما حدث من المغيرة،

حن مشهور وتنادوا بأن مصر كلها قد ألم يمألوا األرجاء صراخا عندما انتحرت إحدى الفتيات في منزل مل

(.مصر اإلسالم)إلى ( مصر الحانة)تحولت إلى ماخور، وأن العالج كامن في تطبيق حد الزنا، حتى تعود

وإذا كان أسلوب بناء المساكن في عهد عمر هو السبب في فضيحة المغيرة، فماذا يكون الحال بالنسبة

لهواء أن يرفع شيش النافذة أو زجاجها، ناهيك عن أبوابها ومغاليقها لمبانينا الحديثة، التي ال يستطيع فيها ا

وأقفالها؟

وإذا كان تلجلج أحد الشهود هو مبرر نجاة المغيرة، فماذا يكون الحال في مواجهة شهود مهنتهم الشهادة،

قسموا أنه كان ولو زادهم المغيرة خمسا ألقسموا أنه كان مستقبلهم وأنها كانت زوجته، ولو أنقصهم خمسا أل

.مستدبرهم وأنها كانت أم جميل

المغيرة بقصته، ونضيف إليها جديدا، راجين من القارئ –أو يمتعنا –ونعود إلى تساؤالتنا قبل أن يفاجئنا

هل بوسعنا أن نساوي في العقوبة بين من أتاحت له ظروف الحياة تعدد : أن يكون منصفا في إجابته

لفتح وانتشار الرق تعدد الجواري المستمتع بهن حتى بلغت العشرات، وأتاح الزوجات وأتاحت له ظروف ا

له اجتهاد ابن عباس أو مذهب التشيع زواج المتعة، وبين شبابنا المعاصر الذي ال يستطيع أن يتزوج بواحدة

لعجز ذات اليد عن دفع المهر، وعجز إمكانيات المجتمع عن توفير مسكن الزوجية؟

قدم المساواة مع ذاك؟، أال تشفع ظروف الحياة المعاصرة وقد ذكرنا طرفا منها لشبابنا هل يعامل هذا على

المعاصر، كما شفعت ظروف المجاعة للسارقين في عهد عمر؟

نحن هنا ال تدعو للزنا أو نبرر إباحته كما يحلو للبعض ممن ال يرى الحياة إال من خالل رجل وامرأة

يغمز عن جهل أو يلمز عن شبق، وال نفعل ما يفعله البعض ممن يؤثرون والشيطان ثالثهما أن يتقول وأن

السالمة فيطالبون بإقامة حد الزنا وأن يكون الرجم للمحصن أو المحصنة عن ثقة كاملة منهم أنه حد

مستحيل التطبيق، وألن الجريمة التي تعاقب عليها الشريعة أقرب إلى إتيان الفعل العلني الفاضح في

دأنا نواجه األمر بالمنطق والعقل، تماما كما واجهه عمر في حد السرقة حين تجاوز ظاهر النص الطريق، ب

والعقوبة إلى العالقة بين األسباب والنتائج، بل وأكثر من ذلك نفتح ملف حادثة مازالت ملء السمع والبصر،

رات في منطقة نائية في وهي حادثة اغتصاب ستة من الشبان لفتاة كانت تجلس مع خطيبها في إحدى السيا

ضاحية المعادي، وقد أثبت تقرير الطبيب الشرعي أنها عذراء، وقد قامت الدنيا ولم تقعد بسبب هذه الحادثة،

وانطلقت األصوات مطالبة بتطبيق الشريعة وكأنها الحل، وظلت الصفحات الدينية تردد على مسامعنا وأمام

، بينما تقرير "طبقوا حد الزنا " ، "طبقوا حد الزنا : " ررةأبصارنا دون ملل أو كاللة مقولة واحدة متك

الطبيب الشرعي ينفي واقعة الزنا من أساسها ألن البكارة شبهة تنفي تطبيق الحد بإجماع الفقهاء، وقد حكم

القضاة بإعدام خمسة من الشبان، وعدل الحكم في االستئناف إلى إعدام اثنين، وأدلى المفتي السابق بحديث

.ن الحكم مطابق للشريعة واصفا التهمة بأنها إفساد في األرض، ويعلم اهلل أنها ليست كذلكعن أ

فعقوبة اإلفساد في األرض تختص باألموال وليس الفروج، وهي عقوبة محددة في كل جزئية فيها ولها من

على جرائم يعسر الشروط ما ال ينطبق على هذه القضية بحال، والنتيجة ببساطة أن القانون الحالي يعاقب

على الشريعة أن تعاقب عليها، وبعكس احتياج المجتمع المعاصر بأقدر مما تفعل الشريعة، ليس لعجز فيها،

معاذ اهلل، بل لقصور من يتناولنها من هواة وصف القوانين الوضعية بالمخالفة لروح اإلسالم، واإلصرار

رتعد فرائصهم حين نطالبهم بالتأسي بعمر، على التوقف أمام ظاهر النص ال جوهره، هؤالء الذين ت

وباالجتهاد كما اجتهد، وبتعطيل ظاهر النص إن كان تطبيقه مستحيال أو كان من الممكن بالقوانين السائدة

مواجهة الجريمة والعقاب عليها واستئصالها إن أمكن، وهو الهدف النهائي لإلسالم، والجوهر الحقيقي

ء، وأعلن لهم أنني لن أكتب حرفا بعد ذلك إن خسرت التحدي، والحكم بيني لروحه بل إني أتحداهم في هدو

.وبينهم للقراء

أمامكم في سجالت القضاء قضايا للزنا وملفات لآلداب تعود إلى نصف قرن، ادرسوها جميعا : أقول لهم

طبع فال عبرة هنا وابحثوها جميعا، واعطوني مثاال واحد لقضية واحدة يمكن أن يطبق فيها حد الزنا، وبال

باالعتراف، ألن االعتراف مقترن بالعقوبة المحدودة في القوانين السارية، ولو تقررت عقوبة الرجم لما

...اعترف رجل أو امرأة بالزنا وهذه بديهية ال يختلف حولها أحد، والعبرة كل العبرة، بتوافر الشروط والحد

..أعطوني قضية واحدة شهد فيها أربعة

...وال ضير في مزيد من التحدي الهادئ... األربعة الميل في المكحلة، أو الرشاء في البئر ورأى فيها

أال تعاقب القوانين الوضيعة على ما ال : أجيبوني بعد الدرس والمراجعة والبحث عن سؤال أكثر بساطة وهو

.تطوله الشريعة في هذا المجال في ظل شروطها القاسية بل والمستحيلة؟

أين أتيتم بمقولة أن المجتمع يبيح الزنا ويدعو إليه ويحث عليه ويعفو عنه؟ بينما المجتمع يطول أجيبوني من

بقوانينه المتجددة ما ال يطوله اجتهادهم القاصر، إن كان ثمة اجتهادا أصال، ويحفظ للمجتمع حقوقه وهو

.ضرورة، إلى الحكم باإلعدام؟عين ما يسعى اإلسالم إليه، ويصل بعقوبة هتك العرض، وهي ليست الزنا بال

بوجود غريب في المكان )أو ( بالمكاتيب)وماذا يضيركم إذا أثبت المشرع واقعة الزنا في القوانين الحالية

، أليس هذا أقرب إلى إمكانية إثبات الواقعة من شهود الميل (المخصص لنوم الحريم في البيوت المسلمة

؟(كون الباءبفتح الحاء وس)الحبل )والرشاء ( المرود)

وماذا يفزعكم في إعطاء القوانين الحالية للزوج حق إقامة الدعوى أو عدم إقامتها، أليس في هذا حفظ لسمعة

البيوت وأسرار األسر وستر للعورات، ودرء للحدود بالستر؟، وهب أن زوجا علم ثم عفا، قبوال منه لنوبة

مدارسهم أو مجتمعاتهم، أليس هذا أقرب إلى روح الزوجة، أو حفاظا منه على سمعة أوالده وبناته في

اإلسالم من فضح الزوجة وتدمير سمعة األوالد وإنهاء مستقبل البنات وسمعتهن إلى األبد؟

أم أن اإلسالم ال يكون إسالما في عرفكم إال إذا جلد وفضح ورجم ودمر، وتنكرونه إذا عفا وتسامح وستر،

كان قبل أن تواجهونا بالعموميات، والشعارات، االتهامات، فاألسئلة ثم لماذا ال تتفقون على كلمة سواء

عديدة وليس هذا مجالها، ألننا لسنا بصدد بحث فقهي، ومثالها التساؤل حول عالقة السنة بالقرآن، وإمكانية

كل نسخ السنة لنص قرآني ثابت في أحد الحدود، وهذا كله يفتح بابا واسعا لالجتهاد، وللنقاش، وهو على

األحوال ال يفتح نافذة واحدة للتشكيك في اإليمان أو الحكم بالكفر أو االتهام في العقيدة، وما كان أغناني عن

.هذا الحديث

لوال أنني مؤمن بأن اإلسالم على مفترق طرق، وأنه البد سائر إلى حيث يريد اهلل الرحمة لعباده، واالنتصار

م لن يضار بالمتعصبين إال إلى حين، ولن يختلف بالجامدين إال إلى إلسالمه واالستمرار لعقيدته، وأن اإلسال

حين، ولن يشارك في الحياة أبدا بالمرتعدين عن قصور في الفهم أو عجز في االجتهاد أو جمود في التفكير،

نحافظ وأننا في حاجة إلى أن نقبل على الحياة باإلسالم، ال أن نهوى عليها باإلسالم، وأننا في حاجة إلى أن

على اإلسالم العقيدة، ال أن نكتفي بحفظ اإلسالم النصوص، وأننا في حاجة إلى أن نخترق الحياة باإلسالم،

ال أن نخترق الحياة باإلسالم، واإلسالم بحمد اهلل أقرب إلى الحياة من يبتعدون عنها بالقول، وينهلون منها

فزعون إليها بخلط أوراق الدين بالسياسة، والسياسة بالفعل، ويحلمون بها طوع بنانهم بالحكم، ويفزعونها وي

بالدين، والعنف بالموعظة، والموعظة بالطمع، والطمع بالمزايدة، والمزايدة بشراء الذمم، وأبواب شراء

، والشركات (اإلسالمية)الذمم في حياتنا شتى، فقد عرفنا في السنوات األخيرة مناصب المستشارين للبنوك

، (اإلسالمية)، للتعرف على مسار التجربة (اإلسالمية)ت الشتاء والصيف للدول ، ورحال(اإلسالمية)

في مصر، أو إنفاقها على أمور الدعوة ( المسلمين)وللحصول على بعض األموال الزكاة لتوزيعها على

(.اإلسالمية)

هم، فقد صرح ونحن في هذا ال نتحدث من فراغ، أو عن هين من المال أو يسير، ودليلنا نأخذه من ألسنت

في ( المسلمين)حافظ سالمة للصحف بأنه جمع لبناء مسجد النور مليون ونصف مليون جنيه من تبرعات

الخليج في رحلة له إلى هناك لمدة أسبوع، واستنكر أحد كبار رجال الدعوة ما نشره األهرام االقتصادي عن

بتصحيح ما نشر ألن المبلغ ثالثون، أنه حصل على عشرين ألف دوالر سنويا كمكافأة استشارية وطالب

ألوفا بالعشرات في الداخل، وبالمئات في الخارج، فال جناح عليهم إن هاجمونا، ( الدعوة)وإذا أمطرت سماء

وال تـثريب عليهم إن كفرونا، وال بأس عليهم إن قاتلونا، وال غرابة إن خرج علينا بعض الساسة بالنقد تملقا

تطراد في هذا الباب ألفضنا، لكنا نشعر أننا أرهقنا القارئ وربما أصبناه بالماللة، فقد ومزايدة، ولو شئنا االس

.أطلنا في قراءتنا الجديدة لألوراق القديمة، ووجدنا أنها وثيقة الصلة بما نراه في أيامنا المعاصرة

ما الرشيد، وعن ولعلنا نمسك عن االستطراد على وعد بكتابات قادمة، نتحدث فيها عن الرشيد وما أدراك

المأمون وما أدراك ما المأمون، وعن المعتصم وما أدراك ما المعتصم، أما الواثق، وهو آخر خلفاء العصر

العباسي األول، فال أحسب أنني أستطيع مع سيرته صبرا، وال أحسب أن القارئ سوف ينسى بسهولة ما

، وسلك مسلكا فريدا من مسالك الخلفاء أو (سالميةاإل)سأذكره عنه، فقد فتح بابا جديدا من أبواب الخالفة

أمراء المؤمنين، وخلد سيرته نثرا وشعرا، وحكم قرابة الست سنوات منتقال من غالم إلى غالم، ونعيدها

:حتى ال يشك القارئ في صحة ما ذكرناه أو يتصوره خطأ مطبعيا نقول

لكوا وجدانه، وأذابوا مشاعره تولها وصبابة، وكان منهم من غالم إلى غالم، فقد كان عاشقا صبا للغلمان، م

، لعب بعواطف الواثق كما شاء، وتملك مشاعره وتالعب بوجدانه (مـهج)، اسمه (مصري لألسف)غالم

كما يريد، إن رضى عنه استقامت أحوال الدولة واستقر شأن الحكم، وإن تدلل عليه أو صده فالويل كل

.وعظائم األمور لمن يشاء حظه العاثر أن يلقي الواثق أو يقف أمامه أو يحتكم إليه الويل للمسلمين، والثبور

ولعل من يرددون دون وعي أو ملل، أن حضارة الغرب قد أباحت الشذوذ الجنسي، يتيهون اآلن بأن دورنا

ادة، وكان لم يقتصر أبدا على النقل من الغرب، ألنه لو صح ما يدعون، وهو غير صحيح، النعقدت لنا الري

لنا قصب السبق دون شك، وهل لدى الغرب حاكم مثل الواثق، وهل في تاريخهم كله خادم مثل مهج، يخلب

لب الخليفة، فيصرفه عن شئون الدنيا، ناهيك عن شئون الدين، فينصرف إليه، وتجود قريحته بالشعر عليه،

:فيردد على إيقاع أيدينا وهي تضرب كفا بكف

بسجي اللحظ والدعج مهج يملك المهج

حسن القد مخطف ذو دالل وذو غنج

ليس للعين إن بدا عنه بالحظ منعرج

(390ص. تاريخ الخلفاء للسيوطي)

إليه ويعرف مهج قدر نفسه عند الخليفة الواثق، فيبتدره يوما في الصباح، وهو جالس بين حاشيته، ويمضي

متـثـنيا، منكسر النظرة، مترنح الخطوة، مترجرج األعطاف، ويناوله وردا ونرجسا، وتصور أنت أيها

القارئ حال الواثق أمام كل هذا الهول، واعذره إن استخف به الطرب فنسى الحاشية والمجلس، وأنشد

:وعيناه ترنوان إلى مهج

قدحياك بالنرجس والورد معتدل القامة وال

وزاد في اللوعة والوجد فألهبت عيناه نار الهوى

أملت بالملك له قربه فصار ملكي سبب البعد

ورنحته سكرات الهوى فمال بالوصل إلى الصد

إن سئل البذل ثنى عطفه وأسبل الدمع على الخد

ال يعرف اإلنجاز للوعد غر بما تجنيه ألحاظه

مولى تشكي الظلم من عبده فأنصفوا المولى من العبد

ويا سبحان اهلل ؛ ما أشعر الواثق وما أرق ألفاظه وما أدق وصفه للحظة العشق العظيم، حين يسيل دمع

حب القد مهج علي خده، فال يدري الواثق أهو دمع الهوى أم دمع الصد، وماله ال يفعل ذلك، وهو صا

خليفة )المعتدل، المترنح في خطوة بسكرات الهوى، ذلك الذي يعرف وصله من صده، الظالم لعبده

، المغرور بسهام ألحاظه، المنكر للوعد (مهج)ذلك الذي يستنجد بالرعية أن تنصفه من مواله ( المسلمين

تقياء المصدقين للمتنادين بعودة دائما، أما الوعد فيسير إدراكه على خيال القارئ، وعسير إدراكه على األ

الخالفة، الخالطين بين حلم رائع في خيالهم، بثـته عقيدة عظيمة، وبين حقيقة مفزعة تكشفها لهم صفحات

.التاريخ، وألحاظ مهج، وخالعة الواثق، وفقه معاصريه من الجبناء وجبن معاصريه من الفقهاء

طاف اهلل، حدث ذلك يوما، حين فقد الواثق عقله يا أل.. هذا عن مهج حين يرضى، فماذا عنه إن غضب

فأغضب مهج، وفي اليوم التالي طار لب الواثق، وتعطلت مصالح الدولة، وخشي كبار الدولة أن يدخلوا

على الواثق في حالته تلك، ولم يكن ألحد أن يتوقع خيرا إن القاه أو حاكاه، وأدرك الجميع أن السر لدى

ليروم أن أكلمه من أمس، فما –يقصد الواثق –واهلل إنه )دم ليسألوه فأجابهم مهج، فدسوا عليه بعض الخ

(.أفعل

يا للكارثة، ويا لصعوبة ما أعانيه بحثا عن ألفاظ تليق بجالل الموقف ورهبته، وعذاب الواثق وغضبته، وقد

:نقل إليه حديث مهج فأنشد من جديد قائال

ت إال مليك جار إذ قدرايا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا ما أن

وإن أفق منه يوما ما فسوف ترى لوال الهوى لتجارينا على قدر

ولحسن حظ مهج، وسوء حظ الطالبين بعودة الخالفة لم يفق الواثق أبدا، بيد أن البعض قد يتصور أن عمر

آخر، يحلو له أن خالفة الواثق قد ضاع على مهج وأمثاله، لكن ذلك لم يكن صحيحا، فقد كان للواثق وجه

يخرج به على الرعية، ويبدو فيه حاميا لذمار العقيدة، ومناضال من أجل صحيح الدين، فقد انتصر للمعتزلة

كما فعل والده المعتصم، الذي عذب ابن حنبل لقوله بأن القرآن ليس بمخلوق، ويروي عن الواثق أنه أحضر

تاريخ اإلسالمي، من بغداد إلى سامرا، مقيدا في أحمد بن نصر الخزاعي أحد كبار رجال الحديث في ال

فثار )كذا جاءت الرواية : ليس بمخلوق، وعن الرؤية في القيامة فقال: األغالل، وسأله عن القرآن فقال

إذا قمت فال يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربا : الواثق ودعا بالسيف، وقال

فه بالصفة التي وصفه بها، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد، فمشى إليه، فضرب ال نعبده، وال نعر

، واستمر ذلك ست سنين (سر من رأى)عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فصلب بها وصلبت جثته في

ن هذا رأس أحمد بن نصر ب: إلى أن ولي المتوكل، فأنزله ودفنه ولما صلب كتبت ورقة علقت في أذنه، فيها

مالك، دعاه عبد اهلل اإلمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إال المعاندة، فعجله اهلل إلى

(.ناره

وتأملوا معي التناقض بين حديث مهج وحديث الخزاعي، وفاضلوا بين مصير مهج ومصير الخزاعي،

هم كما رأينا للواثق وجهين ال صلة وقارنوا بين الواثق وبين كثيرين ممن نعرفهم ونسمع منهم، ونرى ل

بينهما وال رابطة، فهم يقضون ليلهم بين الكأس والندماء، وما أن يسفر الصبح حتى ينطلقوا إلى صفحات

الصحف ومنتديات السياسة، ينادون بالتطبيق الفوري للشريعة، فإذا سألتهم ابتسموا، وأنكروا عليك جهلك

نفسهم رأيهم فيك، وهو أنك غر حديث التجربة، لن تتعلم بعد كيف بالسياسة وفعال الساسة، وكتموا في أ

..تتعامل مع الشارع المصري، فتقول شيئا وتعني شيئا ثانيا وتفعل شيئا ثالثا

وإذا كان الواثق قد تألق في صوالته بين الغلمان، وإذا كان يستحق بجدارة أن يوصف في جوالته بأنه فارس

له لم يكن فارس الميدان الوحيد، فقد ذكرنا طرفا عن التلوط في عهد الوليد بن يزيد، إنصافا –الميدان، فإنه

ابتاع الخصيان وغالى بهم وصيرهم لخلوته ورفض )الذي ( ابن الرشيد)ولم نذكر شيئا عن عهد األمين

األمين ، وكما تعلق قلب الواثق بمهج تعلق قلب (361ص –تاريخ الخلفاء للسيوطي ( )النساء والجواري

:بكوثر، وقال بعض الشعراء عن عصره

أضاع الخالفة غش الوزير وفسق األمير وجهل المشير

لواط الخليفة أعجوبة وأعجب منه خالق الوزير

فهذا يدوس وهذا يداس كذاك لعمري خالف األمور

رى الحرب، فأصابته رجمة في وجهه، فجعل األمين خرج كوثر خادم األمين لي)ولما هاجم المأمون األمين،

:يمسح الدم عن وجهه ثم قال

ضربوا قرة عيني ومن أجلي ضربوه

أخذ اهلل لقلبي من إناس حرقوه

:قل عليهما، فقال: ولم يقدر على زيادة فأحضر عبد اهلل التيمي الشاعر فقال له

هما لمن أهوى شبيه فبه الدنيا تتي

وصله حلو، ولكن هجره مر كريه

من رأى الناس له الفضل عليهم حسدوه

مثل ما قد حسد القائم بالملك أخوه

وهكذا انشغل األمين عن الحرب، وعن سقوط حكمه، بجرح حبيبه وخليله كوثر، . فأوقر له ثالثة بغال دراهم

:قائل في وصف كوثر ذي الوصل الحلو، والصد المر، والهجر الكريه، وماله ال يفعل ذلك وهو

ما يريد الناس من صب بما يهوى كثيب

كوثر ديني ودنياي وسقمي وطبيبي

أعجز الناس الذي يلحي محبا في حبيب

يا أمير المؤمنين، ما أرقك وما أطيب وصلك، لوال أنها خلة تشين في أي عرف، ناهيك عن أي !! يا حبيبي

حان، وإلى الطرب باأللحان، وإلى القول بما نمسك عنه، دين، ولوال أن عشق الغلمان، يقود إلى بنت ال

ونفزع منه، غير أن رحمة اهلل قد وسعت األمين في دنياه من باب آخر فلم تذكر لنا صفحات التاريخ أن فقيها

أفتى بحل قتله، أو حرمة ما أتاه، أو إفك ما فعله، غاية ما في األمر أنهم قالوا عنه شعرا بعد وفاته، ربما بعد

تيقنهم من سيرة المأمون المختلفة، وإتيانه لألمور من قبل، واهتمامه بشئون الحكم وعمارة البلدان، وليس

:بالخمر والغناء والغلمان، فقالوا في األمين غداة وفاته

لم نبكيك؟ لماذا؟ للطرب يا أبا موسى وترويج اللعب

ولترك الخمس في أوقاتها حرصا منك على ماء العنب

ال أبكي له وعلى كوثر ال أخشى العطبوشنيف أنا

لم تكن تصلح للملك ولم تعطك الطاعة بالملك العرب

وهكذا، أدرك الشعراء فقط بعد موت األمين، أنه لم يكن يصلح، وتنادوا بأنه لم يبايع بالطاعة من العرب،

ء العنب، وليس على خالف الحقيقة، وتذكروا أنه كان يترك الصلوات الخمس، وكان متفرغا للطرب ولما

هذا بغريب علينا، فحتى في عصرنا هذا ال يتذكر البعض مثالب الحكام إال بعد وفاتهم، واستقرار الحكم لمن

يليهم، ولعل القارئ يشاركني في أن حكامنا أرحم، فليس بين مستشاريهم كوثر أو شنيف، أو مهج أو

ليس في عالقتهم بوزرائهم والمشيرين وصيف، وليس في أقوالهم وصل للغلمان، أو وصف لبنت الحان، و

عليهم ما شاب عالقة الخلفاء العباسيين بوزرائهم ومستشاريهم، ومعذرة لهذا القاموس الكريه، فإناء الخالفة

ينضح على أوراقنا بما فيه، بل إن شئنا الدقة إناء العصر، ويكفينا أن نذكر أن األمين كان متبعا ولم يكن

.مبتدعا

لتوحيدي يحدثنا أنه كان في بغداد خمسة وتسعون غالما جميال يغنون للناس، وأنه كان صاحب فأبو حيان ا"

صبي موصلي مغن، مأل الدنيا عيارة وخسارة، وافتضح أصحاب النسك والوقار، وأصناف الناس من

لفظه الحلو، الصغار والكبار، بوجهه الحسن، وثغره المبتسم، وحديثه الساحر، وطرفه الفاتر، وقده المديد، و

".فله حاالت، وهدايته ضالالت، وهو فتنة الحاضر والبادي .. يسرقك منك، ويردك عليك.. ودله الخلوب

: كما يحدثنا عن علوان غالم ابن عرس، فإنه إذا حضر وألقى إزاره، وحل أزراره، وقال ألهل المجلس

ال يبقى أحد من ... إليكم بوالئي ،اقترحوا واستفتحوا فإني ولدكم، بل عبدكم ألخدمكم بغنائي، وأتقرب

"الجماعة إال وينبض عرقه، ويهش فؤاده، ويذكو طبعه، ويفكه قلبه، ويتحرك ساكنه، ويتدغدغ روحه الخ

و " وصيف " و " نسيم " و " رائق " و" فاتن " وتفننوا في أسماء الغلمان بما يدل على مقصدهم، فسموا بـ

–أحمد أمين الجزء األول –ظهر اإلسالم " )بشرى " ، و (ة التأنيثهكذا بأدا)، "جميلة " و " ريحان "

(نقال عن االمتناع والمؤانسة ألبي حيان التوحيدي 130ص

أحسب أن ما سبق يغني عن التعليق، بل لعله يغري بالتعليق، ولو لم نوثـقه لعجز الكثيرون عن التصديق

وهذا يلقي إزاره، وذاك يحل أزراره، وأصحاب النسك ، (فاتن)، وذاك غالم اسمه (جميلة)فهذا غالم اسمه

والوقار يفتضحون، وينبض عرقهم، ويتحرك ساكنهم، وهو يداعب شذوذهم، فيناديهم يا أسيادي، أنا عبدكم

وولدكم، وكلما زاد في مداعبته زاد نبض عروقهم، وزاد تحرك ساكنهم، لهذا الذي حاله حاالت، وهدايته

إال باهلل القادر على كل شيء، ولعل من المستحسن هنا أن نذكر أن األمين ضالالت، وال حول وال قوة

وغيره من الخلفاء، فعلوا ما فعلوا بتشجيع الفقهاء، الذين أنزلوهم منازل من يستخلفهم اهلل في أرضه، ويجعل

هذا الخليفة ما يشتبه عليهم، ومثل( الحظ أن الذي يبين لهم هو اهلل جل جالله)لهم نورا يضيء ويبين لهم

الذي ينير اهلل له طريقه، ويوحي إليه بالحق ويرشده سواء السبيل، يصعب على فرد من الرعية أن يذكر

شيئا مما سبق عنه، أو يصدق شيئا مما سبق منقوال عن الرواة، أو يستمع إلى شيء مما سبق دون أن

أو بعض من ذاك، فاهلل أجل وأعز، والخليفة يستغفر اهلل، نافيا أنه جل شأنه يهدي خليفته إلى شيء من هذا

العبارة بين القوسين ( )من ال يسأل عما يفعل)أعلى وأرفع، ومن يا ترى يتصدر لرفع الخلفاء إلى موضع

.(مقصودة، ولعل البعض يتذكرها تحت قبة مجلس الشعب المصري منذ سنوات

( أبو يوسف)هم علما وأفقههم في الدين، فقد ذكر المفزع أن من يتصدر لذلك دائما أعلى الفقهاء شأنا، وأكثر

موجها حديثه إلى ( الخراج)أشهر تالميذ أبي حنيفة وأنبغهم وفقيه عصره بال مراء، في مقدمة كتابه الشهير

أن اهلل بمنه وعفوه جعل والة األمراء خلفاء في أرضه، وجعل لهم نورا يضيء للرعية ما أظلم )الرشيد

.(أبو سيف –مقدمة كتاب الخراج ( )يما بينهم، ويبين ما اشتبه من الحقوق عليهمعليهم من األمور ف

، وهي عبارات نهديها لمن يردون علينا (يا فرعون من فرعنك)وهي عبارات تذكرنا بالمثل الشعبي السائر،

أو الحكم بأن من سبق من الخلفاء، إنما خرجوا على الدين، وبالتالي فال عالقة بين ما فعلوه وبين الدين

بالدين، فلعلهم يدركون اآلن أن من خرج على الدين إنما خرج بفتوى رجال الدين، وأن وطد األمر إنما كان

.الحكم بالدين

هنا أتوقف مضطرا تحسبا من الملل وتخوفا من اإلطالة، بل لعلي أطلت بالفعل ولسبب آخر هو أن

اسي الثاني سوف يستنكره الكثيرون، ألنه حديث خلفاء استطرادي بعد ذلك في حديث الخلفاء في العصر العب

إمعات، ال يملكون من أمرهم شيئا، وقد يفسره البعض بأنه تصيد لألخطاء أو اصطياد في الماء العكر، وهو

ما ليس في طبعنا أو من طبيعتنا، ويكفي أن ثالثة منهم، خلعوا وسلمت أعينهم وعاصروا بعضهم البعض،

(.والمستكفي وهم القاهر والتقي)

: وهو يشحذ على باب أحد المساجد، مسمول العينين، مناديا( القاهر)ووصل األمر أن شوهد أحدهم

أمر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنين، ونفى )، وهو نفسه من (تصدقوا علي فأنا من عرفتم)

سوادج، وكان مع ذلك ال يصحو المخانيث، وكسر آالت اللهو وأمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن

(.335تاريخ الخلفاء للسيوطي ص( )من السكر، وال يفتر عن سماع الغناء

أن وزيره بهاء الدولة دخل عليه، وقبل األرض بين يديه، فمد الطائع ( الطائع)ومن أطرف ما حدث ألحدهم

ال يجدي الحديث، وإنما يجدي يده إليه مسلما فجذبه من على كرسي الخالفة وأعلن خلعه، ومع أمثال هؤالء

.البكاء، ويحمد اهلل على البالء

وأخيرا، وبعد ما سبق كله، وعلى الرغم مما سبق كله ومع علم بعضهم به، ولجهل البعض اآلخر بأمره،

!!يتنادون بالخالفة

* * * * * *

:ونوجز ما توصلنا إليه من نتائج فيما يلي

:أوال

باإلسالمية هي في حقيقتها خالفة عربية قرشية، وأنها لم تحمل من اإلسالم إال أن الخالفة التي نعتوها

االسم، وأن دعوى إحيائها من جديد تبدو أكثر تناسقا مع منهج القومية العربية والدعوة للوحدة بين أقطار

سياسية بحتة، إن العرب، منها إلى الدعوة لدولة دينية إسالمية، وبهذا المنطق نقلبها على أساس كونها دعوة

استهدفت التوحد فعلى أساس المصلحة، وإن توجهت للتكامل فعلى أسس حضارية عقالنية، وإن استلهمت

(.الجغرافيا)التاريخ فعلى أساس وطيد من

:ثانيا

أن اإلسالم دين ال دولة، وعلى المحتج علينا بالعكس، أن يرد علينا بحجة التاريخ، وليس أقوى من التاريخ

أو أن يعرض علينا منهجه في إقامة الدولة على أساس اإلسالم، وليس أقوى من تهافت ما قدم إلينا حجة،

حتى اآلن من أفكار حجة على المدعين أن اإلسالم دين ودولة، ومصحف وسيف، ليس هذا فحسب بل أننا

في حاجة بعد الصفحات نعتقد أن الدولة كانت عبئا على اإلسالم، وانتفاضا منه وليست إضافة إليه، ولسنا

.السابقة إلى دليل

:ثالثا

ويبدو ( الثقافة)إن الفرق بين اإلنسان والحيوان، أن األول يتعلم من تجاربه، ويختزنها مكونا ما نعرفه باسم

أن المنادين بعودة الخالفة يسيئون بنا الظن كثيرا، حين يدعوننا إلى أن نجرب من جديد ما جربناه من قبل،

.جربة ثالثة عشر قرنا ال تشفع، أو كأنه يفزعهم أن تسير على قدمين، فيطالبونا بالسير على أربعوكأن ت

:رابعا

إن الثابت لدينا من قراءتنا للتاريخ اإلسالمي أننا نعيش مجتمعا أرقى بكل المقاييس، وعلى رأسها مقاييس

ة بين الحاكم والرعية، وأننا مدينون في ذلك األخالق، وهو مجتمع أكثر تقدما وإنسانية فيما يختص بالعالق

.كله للثقافة اإلنسانية التي ال يرفضها جوهر الدين، ولحقوق اإلنسان التي ال تتناقض مع حقوق اإلسالم

:خامسا

إن التاريخ يكرر نفسه وكأنه ال جديد، غير أننا ال نستوعب دروسه، ونركز في دراستنا له على أضعف

لفكر الديني، ونحن في دعوتنا لدراسة التاريخ واالستفادة من دروسه، ال نكرر خطأ جوانبه، وهو جانب ا

المتطرفين حين يدعوننا إلى منهج النسخ الكربوني وإنما ندعو إلى ترجمة حوادث التاريخ بمصطلحات

إلى الحاضر، وإلى االستفادة من دروسه بأسلوب العصر، ولكي نؤكد للقارئ أن التاريخ يعيد نفسه، ندعوه

ابن األثير –الكامل في التاريخ )حيث قال ( ذكر فتنة الحنابلة ببغداد)قراءة ما ذكره ابن األثير تحت عنوان

(093الجزء السادس ص –

عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون من –هـ في خالفة الراضي 303يقصد سنة –وفيها )

اقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في دور القواد والعامة، وإن وجدوا نبيذا أر

البيع والشراء، ومشى الرجال مع النساء والصبيان، فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه من هو؟ فإن أخبرهم

(.وإال ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأرهجوا بغداد

هـ بعام 303استبدلنا بغداد بأسيوط، والحنابلة بالجماعات اإلسالمية، وعام ماذا لو: ولنا أن نسأل القارئ

، ثم قرأناه من جديد؟، غير أن ذلك كله كان في خالفة الراضي، حين اهتزت هيبة الحكم، وعجز عن 1430

مقراطية بينما أدواتنا اليوم هي الدستور والقانون والدي. استخدام أدواته، التي كانت نطعا وسيفا في عصره

.الكاملة، وهي أدوات ال يعيبها إال عدم االستخدام في أغلب األحيان

:سادسا

إن تنامي الجماعات اإلسالمية وتيارات التطرف السياسي الديني في مصر، يعكس تأثير التربية والتعليم

جه واالتجاه، والوجه واإلعالم في مجتمعاتنا، حيث التفكير دائما خاضع للتوجيه، والمنهج دائما أحادي التو

الواحد من الحقيقة هو الحقيقة كلها، وما سبق عرضه في هذا الكتاب ال يزيد عن محاولة لعرض الحقيقة

المتكاملة، األمر الذي يدعو إلى التفكير، وهو أمر جد مختلف عما يدفع إليه المنهج السائد إعالميا، والذي ال

يعلن من اآلراء إال رأيا واحدا، وال يدفع المواطنين إال إلى يعرض من الحقيقة إال الجانب المضيء، وال

.اتجاه واحد، وهو من خالل ذلك كله يهيء الوجدان لقبول التطرف، ويغلق األذهان أمام منطق الحوار

:سابعا

إن اإلسالم على مفترق طرق، وطريق منها أن نخوض جميعا في حمامات الدم، نتيجة للجهل وضيق األفق

ذلك كله نتيجة النعدام االجتهاد المستنير، وطريق آخر أن يلتقي العصر واإلسالم، وذلك هين يسير، وقبل

وسبيله الوحيد هو االجتهاد المستنير، والقياس الشجاع، واألفق المتنور، ولست أشك في أن البديل الثاني هو

ير أن أخشى ما أخشاه أن يطول الوحيد، وهو الذي سيسود رحمة من اهلل بعباده، وحفظا منه لعقيدته، غ

االنتظار، وأن يحجم األخيار، وأن يجبن القادرون، وأن ينجح المزايدون في دفع العجلة إلى الوراء، ولو إلى

.حين، ألن المجتمع كله سوف يدفع ثمن ذلك، وسوف يكون الثمن غاليا

:ثامنا

قصد، بل كان قصدنا أن نعرض منهجا إن ما عرضناه من تفاصيل وما ناقشناه من وقائع لم يكن هو ال

للتفكير، يسمح باستخدام العقل في التحليل، والنطق في استخالص النتائج، والشجاعة في عرض الحقيقة

دون زيادة أو نقصان، وال نحسب أننا في هذا مبتدعون بل نحن متبعون لما أماله علينا إخالصنا للعقيدة

.ووالؤنا للوطن، وانتماؤنا للمستقبل

* * * * * * * * * * * * * *

!!وماذا بعد؟

ما على القارئ بأس لو انزعج، فاالنزعاج للحق مكرمة، وأن تنزعج للحق فهذا أفضل كثيرا من أن تنبهر

بالباطل، وجزء من هذا االنزعاج مرجعه إلى ما ذكرناه في بداية الحديث، وهو أن النفس تهوى أن تقرأ ما

ق أن تسمع ما تهوى أن يقال لها، بصرف النظر عن موقعه من الحق أو موقفه تحب أن يكتب لها، وتتعش

من الحقيقة، أما الحق فهوى أن اإلسالم الدولة كان انتقاضا من اإلسالم الدين، وعبئا عليه، ألن اإلسالم كما

لعصور، يستوي في شاء له اهلل دين وعقيدة، وليس حكما وسيفا وأما الحقيقة فهي أن البشر هم البشر في كل ا

ذلك عصر الراشدين أو األمويين أو العباسيين أو عصرنا الحديث، وأن الحديث عن جنة األرض هراء ال

.قيمة له، وغثاء ال نفع فيه، وباطل ال جدوى منه

ولعل القارئ قد أدرك في ثنايا الحديث، أننا في حديث التاريخ قد توجهنا للحاضر، واستلهمنا المستقبل، وأننا

ي توجهنا لهذا واستلهامنا لذاك قد أرهقنا أنفسنا كثيرا بالتوقف أمام ما نفزع له، وبتحليل ما نجزع منه، ف

ولست أدري هل يصدقني القارئ أم ال، إذا ذكرت له أنني منعت نفسي كثيرا من الخوض في بعض

.األحداث، تجنبا لفحش في القول أو مبالغة في المجون

ن بين وجهي الصورة، التي نقلوها لنا حلما فأنزلناه في رفق إلى أرض الواقع، ولعلي نجحت في أن أواز

فإذا به واقع مر، قليال ما يسر، وكثيرا ما يفجع، ولست أدري هل أصبت أم أخطأت، وهل كان على أن أفعل

قفوا أمام ما يفعله الكثيرون، حين يتجاهلون ما يقرب من ألف عام من حكم األمويين والعباسيين، لكي يتو

عامين ال أكثر، هما فترة حكم عمر بن عبد العزيز، وحين يختارون من فترة الراشدين ما يدير الرؤوس وما

يدفع الشباب الغض إلى محاولة تحطيم المجتمع، طامعا في أن يعيد أيامهم، ويـبنى على منوالهم، بينما لو

يرا، وربما حمدنا اهلل على ما نحن فيه، ليس هجوما تأملنا فترة حكمهم الكاملة لتمهلنا كثيرا، وتحسبنا كث

فهم في أعلى عليين كصحابة أجالء، وفقهاء دين عظماء، لكنا نتناولهم من زاوية آخرى –معاذ اهلل –عليهم

هي زاوية السياسة، ونقيهم بميزان آخر هو ميزان الحكم، وهم من هذه الزاوية، وبهذا الميزان، بشر يجوز

ز علينا من نقد، ويتعرضون لما نتعرض لهم من أخطاء، وحسب القارئ أن يتأمل معنا فترة عليهم ما يجو

حكمهم، ويتعجب وهو يرى ثالثين عاما، يتعاقب فيها أربعة خلفاء، يموت ثالثة منهم بحد السيف أو الخنجر،

وواحد على يد واحد على يد غالم المجوسي وهو أمر يفجع، وواحد على يد الرعية وهو أمر يفجع ويفزع،

مسلم متطرف وهو أمر يفزع، ويقضي الخليفة األخير فترة حكمه كلها ساعيا إلى التمكن من الحكم سدي،

وإلى فرض واليته على الدولة اإلسالمية كلها دون جدوى، وينهي به األمر محصورا في الكوفة داعيا اهلل

.أن يبدله خيرا من قومه، وأن يبدل قومه أسوأ منه

علنا ننزعج ونحن نكشف أن الفترة على قصرها قد حفلت بالحروب األهلية الكبرى، فقد بدأت بها، ثم ل

وانتهت بها، بدأت بحروب الردة في عهد أبي بكر، وانقضت سنواتها الخمس األخيرة في سلسلة من

ب الحروب األهلية أولها حرب الجمل بين كبار الصحابة، ثم حرب صفين بين على ومعاوية، ثم حر

النهروان بين على والخوارج عليه، ثم سلسلة متصلة من الحروب الصغيرة بين جيوش علي وجيوش

الخوارج، وحسبنا أيضا أنها بدأت مقبلة على الدين من الخليفة ومن الرعية، وانتهت مقبلة عليه من الخليفة،

من ثروات، وما رصدناه من مدبرة عنه من الرعية بقدر إقبالها على الدنيا، دليلنا على ذلك ما ذكرناه

اقتراب حثيث من معاوية، وابتعاد حثيث عن علي، وإذا كان البعض في البداية قد قارن بين الطعام الشهي

على مائدة معاوية، والحق الجلي على لسان علي، فإن النهاية كان انتصارا ال شك فيه للطعام الشهي،

كان اإلسالم الدين أو يكون، لكنه هكذا كانت الدولة اإلسالمية واندحارا ال شبهة فيه للحق الجلي، وما هكذا

وهكذا تكون، شأنها شأن أي دولة دينية على مدى التاريخ اإلنساني كله، ال يغرنك فيها عذب الحديث في

البدء، فالعبرة بالخواتيم، وقد كانت الخواتيم مرة دائما، وأمر منها أن ال نستوعب درسها، وأن ال نستفيد من

.جربتهات

وأن يدعو البعض إلى تكرارها في بالهة يحسدون عليها، وكأنه مطلوب منا أن نقرأ التاريخ لكي نعيد

.أخطاءه

وإذا كنا نتحدث هكذا عن عهد الراشدين، فكيف يكون الحال على يد المعاصرين، الذين لم نعرف اإلرهاب

سياسي إال على يد فرسانهم المغاوبر، ولم ترق إال على أيديهم، ولم يعرف مجتمعنا اآلمن حوادث االغتيال ال

دماء األبرياء إال على يد مجاهديهم األوشاس، وحتى في انتخابات االتحادات الطالبية األخيرة، لم يفتهم أن

وكأنهم لم يميزوا بعد بين الديانة والدانة " صوتك دانة " يرفعوا شعارا غريبا يعكس أسلوب تفكيرهم، وهو

.اإلسالم إال العنف واإلدانة، ولم يروا فيه ما رأيناه من وجوه كلها سماحة ونور ورحمة ولم يعرفوا من

وربما تصور القارئ في بعض أجزاء الكتاب أنني أحرض الدولة على المتطرفين وأدفعها إلى مواجهتهم،

ومقاومة ولعلي أصحح له، فالمقصود ليس مواجهة التطرف في الفكر، وإنما المقصود هو مواجهة العنف،

اإلرهاب، ولعل أحدا يدلني على كيفية مقاومة العنف بالقبالت، ومواجهة السيف باألحضان، واستقبال القنابل

بالكلمات الدافئة، ولعل المنكرين على ما يرونه تشددا، ينظرون حولهم إلى أعرق دول العالم في الممارسة

وكيف تواجه إيطاليا إرهاب األلوية الحمراء، وكيف الديمقراطية، ليشاهدوا كيف يواجه العنف في أيرلندا،

.تواجه ألمانيا الغربية البادر ما ينهوف

وكيف لم يتوقف أحد لكي يحلل دوافعهم أو يبرر أفعالهم كما يفعل البعض هنا، عن تصور يكون هكذا

، ألدرك أن الدولة، بينما لو فكر قليال: الموقف الصحيح، طالما أن اإلرهابيين أعداء لخصمه اللدود

المستهدف ليس الدولة، بل النظام الذي نحن جميعا جزء منه، واألمان الذي نسعى جميعا إلى تحقيقه

وصونه، والشريعة التي هي الموئل والمالذ، ولو كان صبية الجهاد أو أمراءهم أهل حديث لنصحت

ل نكير لدعوت إلى مقارعتهم بحوارهم، ولو كانوا أهل رحمة لنصحت بمجادلتهم بالحسنى، ولو كانوا أه

بالحجة، لكنهم تجاوزوا النكير إلى التفكير، وتجاوزوا القول إلى القتل، وتجاوزوا المنطق إلى حل الدم، وهنا

ال مفر من إكمال مسيرة الديموقراطية، حتى ال يحتجوا علينا بضيق الساحة، وال مفر من الرد على دعواهم

قلبه مساحة للسماحة، وال مفر من إعمال نصوص القانون لردع بالمنطق حتى نجتذب منهم من بقي في

العنف وعزل أصحابه عن حركة المجتمع ومساره، وفرزهم بعيدا عن المعتدلين في التيار اإلسالمي

السياسي، وفيهم أساتذة أجالء وعلماء أفاضل، ومحاورون قادرون، وأهل علم وفقه، ورجال سماحة وفضل،

يدعون لنا بالهداية، وندعو لهم بالمثل، دون أن يكفرونا ودون أن يفقدوا من احترامنا وهم وإن اختلفوا معنا

...ذرة

هم يؤمنون باإلسالم دينا ودولة، وهذا حقهم، ونحن نراه ونؤمن به دينا فحسب وهذا حقنا، وبعضهم يؤمن

تنا بأعلى صوت مطالبين بالعمل السياسي، ومن حق هذا البعض علينا أن نسانده في دعواه، وأن نرفع عقير

له بمنبر الرأي، وهم في النهاية معنا في خندق واحد، ألن موقف اإلرهابيين منهم أشد، ونذيرهم لهم أعنف،

ونكيرهم عليهم أقسى، وحكمهم عليهم أسوأ، ولو صدقت النوايا لوصلنا معه إلى كلمة سواء، ولتقابلنا في

ية العصر ومعايشته، وبقبول متغيراته، وبتقدير ظروفه، منتصف الطريق، هم باالجتهاد المستنير، وبرؤ

وبالتأسي بعمر في اجتهاده، وباإليمان بالوحدة الوطنية، وباإلنصاف لقوانيننا الحالية، ونحن بإدراك أن

الديمقراطية تسعنا وتسعهم، وأن المستقبل لنا دون إنكار لهم أو عليهم، وأن مصر أغلى من المزايدة عليها

الجوهر، والمظاهر ال المضامين، وأن اإلسالم الصحيح هو التقدم، وهو مصلحة المجتمع، وهو بالقشور ال

الحاق بالحضارة، وهو تحصيل العلم، وأن المساحة الخصوصية في قضية الدين أوسع وأرحب، وأن فرض

، وأن اإلسالم الرأي على اآلخرين ال يجوز، وأن التشريع للبشر، أما مبادئ التشريع وأصول العقيدة فهي هلل

.يعني بالغايات قبل الوسائل

وأن العصر األول لإلسالم لن يأتي إلينا، وأننا لن نعود إليه، فكال األمرين مستحيل، وأن التفكير يسبق

التكفير، والعقل يسبق النقل، والسماحة تسع الجميع، وأن الحساب آت ال محالة، في اآلخرة وليس في الدنيا

الكهنوت، وال يعرف رجال الدين، وال يعطي قدسية ألحد، وال يمنح عصمة ألحد، وأن اإلسالم ال يعرف

وال يمنع النقد عن أحد، فال عصمة ألحد غير الرسول، وال قدسية ألحد غيره، وأنه ليس في اإلسالم أزياء،

ا حماة وليس له ألقاب، وليس ألحد كائنا من كان أن يدعي أنه حامي حمى اإلسالم، فكلنا مسلمون، وكلن

اإلسالم، وكلنا أيضا حماة الوطن، كل الوطن، وكلنا عشاق لها، وكلنا مناضلون من أجله، أرضا وسماء،

مسلمين وأقباطا، لسنا فاتحين وليسوا أسارى حرب، نحن جميعا مواطنون، لسنا أغلبية وليسوا أقلية، نحن

ون محكومون، وكلنا عشاق لهذه األرض، جميعا مصريون، لسنا حكاما وليسوا محكومين، نحن جميعا حاكم

.وكلنا مدافعون عنها، وقبل ذلك كله مدافعون عن وحدة الصف وتالحم الصفوف

أعلم أن الحديث قد طال، وأخشى أن يكون قد تشعبن ولعلي أوجز العرض والقصد في الرفض الكامل لخلط

:لك ما يليأوراق السياسة بالدين، وفي التأكيد على الفصل بينهما، حجتي في ذ

:أوال

أن البينة على من ادعى، وإذا كنا ندعو للفصل فحجتنا جلية فيما هو قائم، أما دعاة الوصل فعليهم أن

يوضحوا لنا كيف يكون، وال مناص عن صياغة برنامج سياسي كامل، وهو في تقديرنا أمر عسير عليهم،

.صيل في الكتابوإن كان يسيرا علينا أن ندرك األسباب، وقد عرضناه بالتف

:ثانيا

إننا نقبل في منطق الصواب والخطأ في الحوار السياسي، ألن قضاياه خالفية، يبدو فيها الحق نسبيا،

والباطل نسبيا أيضا، ونرفض أن يدار الحوار السياسي على أساس الحالل والحرام، حيث الحق مطلق

ة لكونه كفرا، وتبعة االتفاق والمتابعة قاسية أيضا والباطل مطلق أيضا، وحيث تبعة الخالف في الرأي قاسي

لمجرد كونها في رأي أصحابها حالال، حتى وإن خالفت المنطق، بل حتى وإن خالفت الحالل ذاته، ولم تكن

أكثر من اجتهاد غير صائب تسانده سلطة الحاكم باسم الدين، ويؤازره سلطان العقيدة في ساحة غير ساحتها

مارسة النميري في السودان ال زالت في األذهان، ولعل مباركة علمائنا األفاضل لما فعله بالقطع، ولعل م

النميري وقت أن كان في السلطة ال زالت في الوجدان، ولعل نقدهم المرير له ونكيرهم الالذع عليه بعد أن

منهم قوال، أم هي ترك السلطة واضح للجميع ولعلنا نتساءل دون أن نغضب أحدا، هل هو الخداع فال نقبل

الغفلة فال نقبل منهم ريادة؟

وكل ابن آدم خطاء فندعو لهم بالمغفرة؟ وقريب من هذا موقفهم من الرئيس السابق في –أم هو الخطأ

مبادرة السالم حين رفعه بعضهم إلى أعلى عليين بالقرآن والسنة، وهبط به بعضهم إلى أسفل سافلين بالقرآن

رى، بل إن شئت الدقة أسارى، لعالمات التعجب واالستفهام، ومالنا نذهب بعيدا وأمامنا والسنة، وركونا حيا

–الحيارى –اآلن حوار دائر بين فريقين منهم، بشأن كافرا وبعضهم يراه قديسا، بينما نحن الرعية

ل بين كفر نضرب كفا بكف ونحن نتابع حوارا ال يدور بين رأي ورأي أو بين صواب وخطأ، ب –األسارى

.وإيمان، وهو ما نرفضه دون أن يؤثر هذا على ما في وجداننا من عقيدة، وما في قلوبنا من إيمان

:ثالثا

إن وقائع التاريخ التي سردناها في الكتاب، تنهض دليال دامغا على ضرورة الفصل، وعلى خطورة الوصل،

.وعلى سذاجة المتنادين بعودة الخالفة

:رابعا

نا وقائع التاريخ وانتقلنا إلى ممارسات نظم قائمة ترفع شعار اإلسالم، وتتبنى مفهوم الحكم به، فإننا إذا تجاوز

نرى أنها جميعا حجة في صالح الفصل، ودليل جديد على خطورة الوصل، وكم نتمنى أن يحتج بها البعض

.حتى نلزمه حجته، غير أنا نحسب أن أحدا لن يفعل، لما نعلم ويعلم

:خامسا

يبقى السبب األخير واألهم، وهو أن الفصل هو السبيل الوحيد للحفاظ على الوحدة الوطنية، وأن الوصل هو

السبيل األكيد لهدم صرحها العتيد، ال يغني عن ذلك التشدق بمقتطفات من التاريخ تؤكد على السماحة

لعكس، وتقشعر له األبدان، ونحن والتسامح في معاملة أهل الذمة، فقد ضربنا صفحا عن أضعافها مما يؤكد ا

نؤمن بأن اإلسالم قد بلغ الذروة في التسامح مع أهل الكتاب، بل ومع الكافرين، لكن القرآن ال يفسر نفسه

بنفسه، واإلسالم ال يطبق نفسه بنفسه، وإنما يتم ذلك من خالل المسلمين، وما أسوأ ما فعل المسلمون

راح أو إثارة النعرات أو تفجير الخالفات، يقدر ما نحن في حاجة إلى باإلسالم، ولسنا في حاجة إلى نكأ الج

.تأكيد اإليجابيات ولم الشمل وتماسك الصفوف

...يا إلهي

كم تردى المناخ وكم نحن في حاجة إلى عودته من جديد كما كان، أحكي لكم، واسمحوا لي، عن قصة ال

حدثت منذ سنوات قريبة، يوم تشييع جنازة عريان أتذكرها إال ويطفر الدمع، ويهتز الوجدان، وهي قصة

سعد، وعريان سعد قبطي مصري، تطوع لقتل يوسف وهبة رئيس وزراء مصر، القبطي الديانة، والذي قبل

رئاسة الوزارة في مصر حين امتنع الوطنيون، حتى ال يكون القتل على يد مسلم فتثور الفتنة، وقد نجا

دما دق ناقوس الكنيسة لحظة تشييع جثمانه، تصادف أن عال صوت يوسف وهبة، وسجن عريان سعد، وعن

..وشعر الجميع أنه هكذا يكون وداع عريان.. أجهش الجميع بالبكاء.. مئذنة مجاورة باآلذان، وهنا

لنا أن نبكي معهم بكاء الرجل العظيم، على رمز عظيم شيعناه، وتراث عظيم أضعناه، وتاريخ عظيم

..نسيناه

ريان، أن اآلذان والناقوس سوف يتعانقان على هذه األرض دائما، فالكل عابد اهلل، عاشق أقسم لك يا ع

للوطن، وسوف تبقى مصر يا عريان، شامخة كما أردت وكما نريد، منيعة على الفرقة، مستعصية على

..الفتنة، مستحيلة االنقسام

...ويا عقالء مصر

هل نلتقي سويا على كلمة سواء؟